للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهي جائزةٌ عند الشافعية بعد التوبةِ، وحُسْن الحالِ؛ وردَّها الحنفيةُ مُطْلقًا، وعَدُّوه من تمام الحَدِّ، وأصلُ النزاع (١) في القرآن؛ فَمَنْ ذهب إلى أن قوله: {إلا الدين تابوا من بعدِ ذلك وءَصْلَحوا} (النور: ٤)، استثناءُ من قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: ٤] قَبِلها بعد التوبةِ، ومنْ جعله استثناءً مِن الفسْق لم يَقْبَلْها وإنْ باب، فالأبدُ عندنا على معناه بخلافة عند الشافعية، وقد بُحث في الأصول أَنَّ الاستثناء إذا وقع بعد عدةِ أمور، هل يرجع الأقرب، أم إلى الجميع؟ فليراجع.

قوله: (وَجَلَدَ عُمرُ أبا بَكْرةَ، وشِبْلَ بَنَ مَعْبد) .... الخ، وقِصَّتُه أن المغيرةَ بن شُعْبة كان واليًا بالعراق، وأبا بكرة بالكوفةِ؛ وكان لمغيرةُ من دُهاةِ العرب، حتى قال الحسنُ البصري: أَفْسد الناس اثنان: المغيرةُ وعَمْرو بنُ العاص، وإنما كان عمرُ، وَلاة على العراق، لأن أمورَ الولاية لا تَنْتَظِم، إلا مِن القَطِن الذكي، المقذف في الأمور، فكان زُهادُّ الصحابةِ عن سخطه منه: منهم أبو بكرة؛ فاتفق يومًا أن المغيرةَ خرج من بيته بِغَلَسَ، فدخل بين امرأة، فلم يستطع أبو بكرة أن يَصبرَ عليه، فذهب وجاء بثلاثةِ شهداء، فشاهدوه يُجامعها، فلما بلغ أمْرُه إلى عمر، دعا: اللهم أَنْقذ المغيرةَ من الحدِّ، فَشَهِد منهم ثلاثةُّ بلفظٍ صريح، أما الرابع فقال: انَّه رأى حركةَ (٢) رِجْليه لا غير، فدرأ عنه الحدَّ، وشكر الله تعالى، وجلد هؤلاء حَدَّ الفِرْية.

قلت: أما وَجْهُ دخولِ المغيرةَ في بيت امرأةٍ، فما علمت بعد تَفَحُّص بالغٍ أنه كان نَكحها نِكَاح السرِّ، فكان يذهبُ إليها ويجامِعُها، وإنما لم يعتذر به عند عُمَر، لأنه كان نهى عنه، وأعلنَ أنه لا يَسْمَع بعد ذلك أحدًا يفعله إلا تَحُلُّ به العقوبةُ، فخاف أن يبوءَ به.

قوله: (مَنْ تابَ قَبِلْتُ شَهادَتَه)، وهذا بِمَحْضَرٍ من الصحابةِ، فلا ريبَ في كونه قويًا، وهو مَذْهبُ أكثرِ الصحابة، ولعلَّ مَلَحَظ الإِمامِ الأعظم أنه لا معنى للتوبةِ عنه، إلا أن يُكذِّب نَفْسَه، وذا لا يمكنُ من رَجُلٍ صادقٍ، فإِنه كيف يُكَذِّب نَفْسه، وقد رآه بعينيه، أما الحدُّ على


(١) قال ابنُ رُشْد: والسبب في اختلافهم، هل الاستثناءُ يعودُ إلى الجملةِ المتقدمة، أو يعودُ إلى أقرب مذكور، فَمَن قال بالثاني، قال: التوبةُ تَرْفع الفِسْق، ولا تقبل شهادته؛ ومَنْ رأى أن الاستثناءَ يتناولُ الأمْرين جميعًا قال: التوبةُ تَرْفَعُ الفِسْق، وردَّ الشهادةَ، لأنَّ الفِسْق متى ارتفع قُبِلت الشهادةُ. اهـ مختصرًا ص ٣٨١ - ج ٢ "بداية المجتهد"، ونحوه ذكر العَيْني ص ٣٣٩ - ج ٦ وراجع من ص ٢٤١، وص ٢٤٢ - ج ٦.
قلت: ونقل المارديني عن "التمهيد" أَنَّ مِمَّن قال: إنَّ الاستثناء يعودُ إلى الجملةِ الأخيرة الحَكَمُ، ومعاويةُ بن قُرَّة، وحمادُ بنُ أبي سُليمان، ومَكحوُل، وهو رواية عن ابن المُسيِّب، وعِكْرة عن الزُّهري وإليه ذهب أكثرُ أهلِ العراق، وفي "المُحلَّى" لابن حَزْم عن ابن شِهاب: شهادةُ القاذف لا تجوزُ، وإن تاب وصَحَّ نَحْوُه عن الشعبيِّ في أَحْد قَوْليه، والنَّخَعي، وابن المسيب في أحد قَوْليه، والحسن البصري، ومجاهد في أحد قَوْليه، ومَسْروق، وعِكرمة في أحد قوليه، وشريح. ثم قال المارديني: إنَّ ابن المسيِّب الذي روى عن عمر قَبولَ شهادتِه خالفه في ذلك؛ ثم أخرجه عن ابن أبي شَيبة بسندٍ على شَرْط مسلم، وأخرج بسندٍ فيه حَجاجُ مرفوعًا: المسلمونَ عدولٌ بَعضُهم على بعض، إلا محدودًا في فرْية. اهـ والحجَّاج أخرج له مسلمٌ مقرونًا بآخر، اهـ ص ٢٤٥ - ج ٢ ملخصًا: قلت: وقد حسَّن الترمذيُّ حديثَ حجاج في نحو عشرين موضعًا.
(٢) أخرج العيني تلك القِصَّة من وجوه متعددة، ففي بعضها: "رأيتُ منظرًا قَبِيحًا"؛ وفي بعضها: سمعتُ نفسًا عاليًا، ورأيتهما في لحاف، اهـ ص ٣٤ - ج ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>