ظهره، فذلك لِقُصُورٍ في الشهادة، وهو أَمْرٌ أَخَر، ألا ترى أن أبا بكرة لم يرجع عن قوله حتى مات.
وحينئذٍ يُشْكِل قولُ عمرَ: مَنْ تاب قَبِلْت شهادته، ماذا معناه؟ هل يريدُ بذلك أن يَحْمِلَهم على أن يُكذِّبوا أنفسهم، فإِنه لا معنى لِتوْبَتِم إلا ذلك، فيه ترغيبٌ لهم على الكذب، قلت: ولعلَّه أراد به الإِغماضَ عما رآه بقولٍ مُبْهم، والتوبةُ مجملةٌ، دون الرُّجوع عما رآه بعينه بصريح اللفظ. وبالجملة لما تعذرت منهم التوبةُ، لأنها تكذيبُ للنفس والعين، بقي حُكْم ردِّ الشهادةِ إلى الأبد (١) والله تعالى أعلم.
قوله:(وقال الثَّوْري: إذا جُلِدَ العَبْدُ، ثُم أُعْتِقَ جَازَت شهادَتُهِ)؛ قلت: وهي مسألةٌ أُخرى ليست من باب قبول شهادةِ القاذفع، لأن العبد ليست له وِلايةٌ، فإِذا عَتق حَصَلت له الوِلايةُ على نفسه، وإذن لا بأس بعبرةِ شهادتِهِ.
قوله:(وقال بعضُ الناس) وحاصلُه أن الإِمام أبا حنيفة رَدَّ أَوّلا شهادةَ المحدود، ثُم ناقَضَه واعتبرها في النكاح: قلت: ليس الأَمرُ كما فَهِم المصنِّف، فإِنَّ الإِمام رَدَّها للثُّبوتِ، وقَبِلها للانعقاد، وبينهما فَرْقُ لا يخفي، ثمُ إنه ليس مِن عقدٍ يحتاجُ إلى الاستشهادِ غير النِّكاح للانعقاد أيضًا، وإنَّما يكفي حضورُ الشاهدَين المحدودَين للانعقاد، لأن الشهادة للانعقاد تعتمدُ الوِلايةَ، ولا قُصور فيهما لوجودِ الولاية فيهما؛ نعم لا تَقْبل شهادَتُهما عند القاضي للقُصور في الأداء، فالردُّ في باب، والقَبول في باب آخر، فأين التناقضُ، وماذا التهافُتُ؟
قوله:(لرؤيةِ هِلالِ رمضان) ... الخ، ولا مناقَضَةَ فيه أيضًا، فإِنَّ الحنفية لا يُسمُّونه، شهادةً، بل هو إُخبارٌ مجرَّدُ عندهم، ولذا لا يُشترط فيه لَفُظُ الشهادة؛ نعم يُشْترطُ في هلال الفِطر، وذلك أيضًا لكونه مُتضمَّنًا لمعنى الحَلِف، فإِنَّ الفقهاء ذكروا لَفْظ: أَشْهد، في ألفاظ اليمين أيضًا، وزعم البَعْضُ أنه لا بُدَّ فيه لفظ: «أَشْهد بِعَينه؛ ولا تكفي تَرْجمتُه، وليس بصحيح،
(١) قلت: ولم أفهم المَرَامِ على التمام؛ ولعلَّ حاصِلَه أن المتدين إذا قذف أحدًا، ثُم رُدَّت شهادتُه لِفقْدان شرْطٍ، فَحُدَّ، فإِنَّ شهادَته لا تُقبل، أبدًا، لأنه لا يُمكن منه أن يتوب أبدًا، لأنه لا معنى للتوبة إلَّا تكذيبُ نفسه، وذا لن يفعله رجلٌ متدينٌ، ثم إنه وإن كان في نَفْسه صادقًا، لكنه كاذبٌ عند الله، كما في النصِّ، فأولئك عند الله هم الكاذبون، فإذا كانوا كاذبين لا بدَّ لهم من التوبة، ليرتفِعَ عنهم ميسمُ السوء فإِذا تعذَّرت تَوْبتُهم لكونهم صادِقين في زعمهم، بقي عليهم ما كان من عهدة الكذب -أعني ردَّ الشهادة- ثُم مَن كان عند الله كاذبًا. لا يصيرُ صادقًا بتكذيب نَفْسه، ولعلَّ رَدَّ الشهادة جزاءٌ للكذب، لا جزاءٌ للِفْسق فقط، والتوبةُ تَرْفع الفسق، أما الكذب فذلك مِن صفة القَوْل، ولا تَعلق له بارتفاع الإِثم، فهو بحالِه بعد التوبة أيضًا، ولما كان رَدُّ الشهادةِ من لوازمه، بقي حُكمه إلى الأبد، وذلك في القَذْف خاصَّةَ، لِعَظَمةِ أَمْره، وفخامة شأنه، وحينئذٍ يَنْدفع ما ذكره ابنُ رُشدُ، أنَّ ردَّ الشهادة مع ارتفاعِ الفسق غيرُ معقولِ، وذلك لأن رَدَّها عُدَّ من تماميةِ الحدِّ، لكونِ الكذب في هذا الباب أَشْنَعَ، بخلافِه في سائر الأبواب، فليس الردُّ جزاءً للِفسْق فقط، ليعودَ الأمرُ إلى ما كان، والله تعالى أعلم بالصواب.