وقوله:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} إشارة إلى النوع الثالث مع قَسِيمَيْه. فإن قلت: إذا قال في الثالث: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فهذا وحي، والأول أيضًا كان وحيًا، فلم يستقم التقابل بين الأقسام. قلتُ: بل الأول وحي، وهذا إيحاء، وبينهما فرق، فإنه جاءت المعهودية الشريعية في الوحي، وهو ما عُرِف نزولُه على الأنبياء، يَعْرِفون به شريعتهم، بخلاف الإيحاء، فإنه على صَرَافة اللغة كالنبوة والنبي، فإن النبوة على صرافة اللغة فيقال: قد نبأنا الله من أخباركم، ولا يقال: إنه نبي ذلك. ولهذه الدقيقة نُسِب الإيحاء إلى غير الرسل أيضًا. بخلاف الوحي فقال تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} .. إلخ [النحل: ٦٨]، وقال تعالى:{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمّ مُوسَى}[القصص: ٧]. فالإيحاء ههنا على اللغة بخلاف الوحي، فإنه لم يُستعمل إلا في شأن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام. وأيضًا إنما صح التقابل بينهما لأن بينهما عمومًا وخصوصًا. فإنهما يشتركان في التسخير ويختلفان بمجيء المَلَك في الثالث دون الأول.
ولذا جمع ههنا بين الإرسال والإيحاء فقال:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ} إلخ. ففي هذا النوع إيحاء أيضًا، إلا أنه بتوسط المَلَك. والحاصل: أن الله سبحانه لا يُكَّلَم مشافهة، ولا يليق بشأن العبد أن يكلِّمه عِيانًا، فإما يكلمه خُفْيَةً، أو مِن وراء حجاب، أو بتوسط المَلَك. أما الفرق بين الكشف والإلهام، فكما قال الشيخ المُجَدِّد السَّرْهَنْدِي: إن الكشف أقرب إلى ما سمَّوه أهل المعقول بالحِسِّيات، والإلهام إلى ما سمَّوه بالوجدانيات، ولعل الإلهام أقرب إلى الصواب من الكشف، فإن الكشف: رفع الحجاب عن الشيء، والإلهام: إلقاء المضمون.
٢ - (أحيانًا يأتيني) وفاعله باعتبار الظاهر هو الوحي. ولكن المصنف (رواه) بوجه آخر عن هشام في بَدْء الخلق قال: «كل ذاك يأتي المَلَك». ويُعلم منه أن الفَاعل بالحقيقة هو الملك. والصلصلة قيل: هي صوت المَلَك بالوحي، وقيل: هي صوتُ حَفِيْفِ أجنحة المَلَك، وعليه اعتمد الحافظ.
٢ - (مثل صلصلة الجرس) والصلصلة: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أُطلق على كل صوت له طنين، ولا يَرِدُ أنه تشبيه محمودٍ بمذموم، فإن التشبيه لا يلزم فيه التساوي من جميع الوجوه، بل يكفي اشتراكهما في صفة. ووجه الشَّبه ههنا هو تدارك الصوت بدون مبدأ ومقطع، فكما أن صوت الصلصلة والسلسلة متدارك ومسلسل، كذلك صوت الوحي يكون بسيطًا بدون مبدأ ومقطع. وهذا بخلاف أصواب البشر، فإنه ينطوي على مبادىء ومقاطع، فهذا هو وجه الشبه. وما ألطف ما قال الشيخ الأكبر: إن صوت الباري جل ذكره يُسمع من كل جهة، ولا تتعين له جهة. وصوت الصلصلة أيضًا كذلك، فوجه الشَّبه حينئذٍ مجيئُهُ من جميع الجوانب ومن جميع الجهات. ونُقِل أنَّ موسى عليه السلام كان يسمع كلامه تعالى على الطُّور من كل جهة.
ولذا أقول: إن الصلصلة هي صوت الباري تعالى على خلاف ما اختاره الشارحون.
واعلم أن ههنا مطلبان:
الأول: ثبوت الصوت للباري تعالى ولا تردد لي في ثبوته، ولكن لا كأصوات المخلوقين سبحانه وتعالى. واختاره البخاري أيضًا في آخر كتابه.