والثاني: أن تلك الصلصلة هل هي صوت الباري عَزَّ اسمُهُ أم لا؟ وأختار فيه من عند نفسي أنها صوت الباري تعالى، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
والسِّرُّ فيه أن ذلك الصوت ثابت في ثلاثة مواضع: عند صدوره من الحضرةِ الربوبية، وعند تلقِّي المَلَك، وعند إلقائه على النبي. فمبدؤه من فوق العرش ومنتهاه إلى النبي، وليس مقصورًا على هذا الموضع فقط، فينبغي أن لا يُغْفَلَ عنه، فإنه يتحدس منه أنه شيء واحد من هناك إلى ههنا. ويُستفاد من كلامهم أنهم قَصَرُوا ذلك الصوت على الموضع الأخير فقط، فحكموا عليه أنه صوت أجنحة الملائكة. وفي حديث النَّواس بن سمعان عند الطبراني وأخرجه الحافظ في باب قول الله عز وجل:{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ}[سبأ: ٢٣] تحت حديث أبي هريرة ما نصه: «أَخَذَتْ أهلَ السمواتِ منه رَعْدَةٌ، خوفًا من الله، وخَرُّوا سُجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل فيكلمه الله بما أراد» اهـ.
(وبالجملة): الصوت هو صوت الباري تعالى. ويجيء الكلام في ثبوت الصوت وسائر صفاته تعالى في آخر الكتاب مبسوطًا إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الصوت هل يبلغ إلى النبي بعينه كما يبلغُ إلى أهلَ السموات؟ أو يتلقاه المَلَك ويحفظه كما تُحفظ الأصوات في الألواح المعروفة اليوم: - بما يسمى بالفونوغراف ٠؟ فأمرٌ يدور النظر فيه. ولم يتعرَّض إليه الحديث. فلذا اكتفيت بقدر ما أثبته الحديث، وكففت عما سكت عنه الحديث. فإن قلتَ: في إثبات الصوت تشبيهٌ؟ قلتُ: كلا، فإنه صوتٌ بحيث لا يُشبه أصوات المخلوقين، فلا تشبيه. والتنزيه عند أهل السنة ليس كتنزيه الفلاسفة. وكذا التشبيه عندهم ليس كتشبيه المُشبِّهة. بل نقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى: ١١) فنفى المِثليَّةَ وأثبتَ السمع والبصر بدون تأويل وتشبيه، فليس ربُّنا مجردًا عن السمع والبصر منزهًا عنهما كما زعمه عقلاء الفلاسفة، ولا مشبَّهًا سمعُهُ بسمعنا، وبصَرُهُ ببصرنا، كما توهمه جهلاء المشبِّهة، وإنما أمرنا بين التَّعطيل الصِّرف والتشبيه البحت كما قال الشيخ الأكبر:
*فلا تَنْظُر إلى الحقِّ ... وتَعْرُوهُ عن الخَلْقِ
(وهو أَشَدُّه عَلَيّ) ولمَّا كان في هذا النوع تسخيرٌ لباطنِهِ وانسلاخٌ عن بعض أوصافه، كان شديدًا من سائر أنواعه، وإن كان الوحيُ كلُّه شديدًا. وهو إشارة إلى النوع الأول:(فَبَفْصِم عني) إي إذا انقطع الوحي فيُقْلِع ويَتَجلّى ما قد غشيتني من الشِّدة. (وقد وَعَيت عنه ما قال) إنما جاء بصيغة الماضي إشارة إلى مزيد التثبُّت فيه، ودفعًا لِمَا قد يختلجُ، من أنه إذا كان مثل الصَّلصلة فلعله لا يَفْهَمُ معناه، أو يتعسَّر فهمُهُ، فأزاحه أنه كان يَعِيهِ ويحفظه بدون تردد، وإنما التشبيه لمعنى آخر.