لأنهم عَرَفوا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معرفةً تامة. ومع ذلك أنكروه وغَيَّروا اسمه ونَعْته من الكتاب، "رُوح المعاني". (٢) يقول العبد الضعيف: إني كنتُ متردِّدًا في أَخْذ الجزيةِ من غير أهل الكتاب، وكنت أرى أن ظاهرَ القرآن يشهد للخصوم، ولم يتفق لي في هذا الباب كثيرُ مراجعةٍ إلى الشيخ، حتى بلغ أوانُ تسويد هذه الأوراق، فرأيتُ أشياءَ في نهزةِ المستوفز تنفعك إن شاء الله تعالى. فاعلم أنه اختُلف فيمن تؤخذ منهم الجزيةُ من الكفار بعد اتفاقهم على جواز أَخذها من أهل الكتابين. فقال أصحابُنا: لا يُقبل من مشركي العرب إلا الإِسلامُ، أو السيفُ، أما أهل الكتاب منهم فَتُقبل الجزيةُ منهم، وكذا تُقْبل من سائر كُفَّار العجم. وذكر ابنُ القاسم عن مالك. أنها تُقْبل من الجميع إلَّا من مُشركي العرب. هكذا ذكره الجَصَّاص في "الأحكام". ثُم إنه لا خلافَ بينهم في أَخذ الجِزْية من المجوس. غير أن الشافعي، ومَنْ نحا نحوه اختار أن الجزيةَ إنما أُخِذت منهم، لكونهم أَهلَ كتاب. ونقول: بل لكونهم داخلين في العجم، فاحتجَّ الشافعيُّ وأصحابُه بما رُوي عن علي أنهم كانوا أهلَ كتاب. وأجاب عنه الجصَّاص أنه على تقدير صحته، معناه أن أسلافهم كانوا أهل كتاب. لإِخباره بأن ذلك نزع من صدورهم ... الخ. قلت: وفيه إشارةٌ إلى جوابين: الأول: الكلامُ في إسناده؛ والثاني: على تقدير تسليمه. أما الأول فقد فصَّله العلامة المارديني، فقال: إنه يدورُ على أبي سعد البَقَّال، وفيه ضَعْف، ثم نقل عن "التمهيد" أَنَّ أَكْثَر أهلِ العلم يأبُون ذلك، ولا يُصحِّحُون هذا الأثرَ، وأما الجوابُ الثاني فقد فَصَّله الطحاوي في "مُشكله"، قال: وكان هذا عندنا -والله تعالى أعلم، مما قد يحتمل أن يكون- كانوا أهل كتاب لو بقي لهم لأَكِلَت ذبائحهم، وتحلُّ نساؤهم، ولكانوا في ذلك كاليهود والنَّصارى، الذين نؤمن بكتابهم، وهما التوراة، والإنجيل. ولكن الله تعالى نَسَخَه، فأَخرجه من كتبه، ورفع حُكْمه عن أهل الإِيمان به، كما نَسَخَ غيرَ شيء مما قد كان أنزله على نبِيِّنا عليه أفضلُ الصلاة والسلام قرآنا، فأعاده غيرَ قرآن، ومِن ذلك ما قد كان يقرأ: "الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة" ولما كان كذلك احتمل أن يكون ما قد رُوي عن علي في المجوس أنهم كان لهم كتاب، أي كما روي عنه، فنسخ، فخرج مِن كُتب الله عز وجل، فلم يكن منها، وذكر له مِثالًا آخرَ، مع بيانِ بدء المجوسية، كيف كان. فراجعه من: ص ٤١١، وص ٤١٢، من المجلد الثاني. وقال أبو عبيد في "كتاب الأموال": فقد صَحَّت الأخبارُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده أنهم قَبِلوها منهم -أي المجوس- ثُم تكلم الناس بَعْدُ في أمرهم: فقال بعضُهم: إنما قُبِلت منهم لأنهم كانوا أهلَ كتاب، ويحدثون بذلك عن علي، ولا أحسب هذا محفوظًا عنه، ولو كان له أَصلٌ لما حرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذبائحهم، ومناكحتهم، وهو كان أَوْلى بِعِلْم ذلك. ولاتَّفَقَ المسلمونَ بعده على كراهتها. وقد قال بعضُهم: قبلها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منهم حين نزلت عليه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: ٢٥٦] ويحدثونه عن مجاهد، وقد رُوي عن عمرَ بن الخطاب، أنه تأول هذه الآية في بعض النصارى والروم، قال أبو عُبيد: فأَرَى عمرَ أنه تأوَّل هذه الآيةَ في أهل الكتاب، وهو أَشبَهُ بالتأويل، والله أعلم. =