وبالجملة ثبت مما ذكرنا أن ما ذكره الطحاوي: ثم الجصَّاص في أَمْر هؤلاء، وما في أثر عليٍّ من الفساد معنىً صحيحٌ، قد وافق فيه أبو عُبيد أيضًا، وهو أَقدم منهما، وكذا ظهر أنهم لو كانوا أهلَ كتاب لكان حُكمُهم في إباحةِ التزويج، وأكل الذبيحةِ مِثْلهم، مع أنه أخرج الجَصَّاص عن الحسن بن محمد أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في مجوس البحرين: إنَّ مَنْ أبى منهم الإسلام ضُرِبَتْ عليه الجزيةَ، ولا تُؤكل لهم ذبيحةٌ، ولا تُنكح لهم امرأةٌ. اهـ. قلت: وقد أخرجه الطحاوي أيضًا في "مُشْكِله"، ولنا في ذلك حُجَّةٌ أخرى، ذَكَرَها الجصَّاص، فقال ما حاصِله: إنَّ قوله تعالى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: ١٥٦] يدلُّ على أنَّ لأَهْل الكتاب طائفتين، فلو كان المجوسُ، أو غيرُهم من أهل الشِّرْك من أهل الكتاب لكانوا ثلاثَ طوائف، وقد اقتضت الآيةُ أنَّ أهل الكتاب طائفتان، ولما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: سُنُّوا بهم سُنَّةَ أَهْلِ الكتاب"، وفي ذلك دلالةٌ على أنهم ليسوا بأهل كتاب. وقد روى المارديني عن عبد الرزاق بإسناده عن ابن جُريج، قال: قلتُ لعطاءِ: المجوسُ أهل كتاب؟ قال: لا، وقال أيضًا: أَخبرنا مَعْمر، قال: سَمِعْت الزُّهري سُئِل أَتؤخذُ الجِزية مِمَّن ليسوا من أهل الكتاب؟ قال: نعم، أَخَذها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من أهل البحرين، وعمرُ من أهل السواد، وعثمان مِن البربر قلت: وقد أخرج الطحاويُّ تلك الآثارَ كلَّها في "مُشْكِله" وأبو عبيد في "كتاب الأموال". ولنا حجةٌ أخرى: ما أخرجه الطحاوي في "مُشْكِل الآثار" عن ابن عباس في قِصَّة عيادةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طالب، قال: "يا عمَّاه أريدُكم إلى كلمةٍ تدين لهم العربُ، وتؤدِّي إليهم العجمُ الجِزية". اهـ. قال الإِمامِ الطحاوي: ففيه ما قد دلَّ على دخولِ المجوس فيمن تُؤخذُ منهم الجزيةُ، لأَنْهم من العجم. اهـ. قلت: ولعلَّ اللفظ: "أريدُ منهم كلمةً"، كما عند الترمذي، وما في نُسْخة "المُشكِل" سَهْوٌ من الكاتِب. ثم إنَّ الإِمام الطحاوي قد أبدع في التمسك به على مَرَامه، كيف لا! وهو إمامٌ. وحاصله أن الجزيةَ مأخوذةٌ من المجوس بلا خلاف، وإنما الخلافُ في مناط ذلك، فقالوا: إنه لكونِهم أهلَ كتاب، فلا يتخطَّاهم. وقلنا: بل لكونهم من العجم، فيتعدَّى الحُكْم إلى سائر العجم. وهذا الحديثُ صريحٌ فيما قلنا، فإِنها لو كانت تُؤخذ منهم لكونهم أهلَ كتاب، لكان حقُّ الكلام أن يقال: وتؤدِّي إليهم أهلُ كتاب الجزيةَ، ليكون مُشْعِرًا بالمناط، فلما قال: "العجم" مكان "أهل كتاب"، عَلِمنا أن المَنَاطَ كونُهم من العجم، فالجزيةُ تُؤخذ منهم لكونها سُنَّةَ العجم، لا لكونِهم أهلَ كتاب، كما قالوا، حينئذٍ تعمُّ لسائِر العجم، وَيَثْبت المطلوبُ، وتعقب عليه أن في إسناده يَحيى بن عُمارة، وهو لا يروي عن سعيد بن جُبير، مع أن الحديثَ المذكورَ عن سعيد بن جُبير، فأجاب عنه الطحاوي أنَّ فيه تَصْحِيفًا، وإنما هو يحيى بن عَبَّاد، وهو رجلٌ جليلُ الشأن من التابعين قلت: وهكذا أخرجه الترمذيُّ في "التفسير": في سورة ص"، وهذه الصورةُ إسناده: حدثنا محمود بن غيلان، وعبدُ بن حُميد -المعنى واحد- قالا: حدثنا أبو أحمد: حدثنا سفيان عن الأعمش عن يحيى قال عبد -أي ابن حميد-: هو ابن عبّاد، عن سعيِد بن جُبير عن ابن عباس، الحديث بطوله، قال الترمذيُّ: هذا حديثُ حسن صحيح، ومِن ههنا ظهر أن عَبد بن حُميد إنَّما فَسَّره، بابن عباد، لئلا يظن أنه ابن عُمارة، ولذا حسَّنه الترمذي، وصحَّحه. ولنا حجةٌ أخرى: ما أخرجه الجصَّاص عن مَعْمَر عن الزُّهري: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صالح أهْلَ الأَوْثان على الجِزية، إلَّا مَنْ كان منهم مِن العرب. اهـ. قال العلامة المارديني: والقائلون بهذا المذهبِ يحتجُّون بالمُرْسل، قال أبو عمر: فاستثنى العربَ، وإنْ كانوا عَبَدَة أَوْثان من بين سائر عَبدة الأوثان، وبه يقول ابن وَهْب. اهـ "الجَوْهر النقي". =