قلت: وقد كان يختلِج في صدري شيءٌ ما كنت اجترىء أن أَذْكُره، ثم رأيته في كلام الخَطَّابي، وها أنا أذكره لك، وإني لجريٌ: قال الخَطَّابي في "معالم السنن": وفي امتناع عمرَ من أَخذ الجزية من المجوس حتى شَهِد عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَذها من مجوسي هَجَرَ، دليلٌ على أَن رَأيَ الصحابةِ أنه لا تُقْبل الجِزيةُ من كُلِّ مُشْرك، كما ذهب إليه الأوزاعي، وإنما تُقبل من أهل الكتاب. اهـ. قلت: وهو نَظَرٌ قويٌ عندي، أما الجوابُ فلا عُسْر فيه على العلماء، وإنما أريدُ أمرًا يَسْكن به الفؤادُ، فارجِع البصرَ كَرَّتين، فيما ذكرناه، تَجِد منه مَخرجًا، أما القرآن فأمْرُه أصعب، يحتاج إلى علومٍ، واستحضار، وتيقظ، وتدرُّب، وتفكُّر، ثُم إصابةُ رأي، وتوفيقٌ من الله عزْ وجل، وأنا لستُ لها. تنبيه: واعلم أَنه قد وقع سَهوٌ في نسخة "مُشْكِل الآثار" يتعسَّر دَرْكُه، وهو أن فيه: كَتَبَ عُمر بن عبد العزيز إلى علي ابن ... أما بعدُ: فسل الحسنَ ما منع قَبلَنا من الائمة أن يَحُولوا بين المجوس، وبين ما يجمعون من النساء اللاتي لا يجمعهنَّ أحدٌ غيرهم؟ فسأله، فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَبِل من مجوس البحرين الجزيةَ، وأقرَّهم على مجوسيتهم. اهـ: وراجع معه كتاب "الأموال" فإِنَّ فيه إشكالًا يندفع من رواية "المُشكِل" هذه: وقد نقلنا عبارته، فيما مرَّ؛ والصوابُ فيه عدي بن أرطاة، مكان علي بن .... كما يظهرُ من "أحكام القرآن" للجصَّاص. وبالجملة ظهر لك مما ذكرنا أن الاختلافَ فيه من باب اختلاف أئمة الحنفيةِ في جواز المناكحةِ مع الصابئين، فمنْ ثبت عنده كونُهم أهلَ كتاب أجازها، وَمنْ لم يثبت عنده نهى عنها. ثم ههنا كلامٌ للشيخ في سبب هذا الخلاف لطيفٌ جدًا، قال: إنَّما دار الخلافُ في أَخْذ الجزيةِ من العجم، لأنَّ الإِسلام في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن خَرَج من جزيرة العرب إلى نواحيها، فلما ظهر في الأطراف دعت الحاجةُ إلى تَفَحُّص الحُكْم في هؤلاء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أَخَذها من المجوس، فمنهم مَن زعم أنهم أهل كتاب، فزعموا أن أَخذ الجزية منهم كان على سُنَّة أهل الكتاب، ومنهم مَنْ أنكره، فَعمَّم الحُكْم. هذا ما تيسَّر لي في هذه الفُرصة القليلة، ولعلَّ الله يُحْدث بعد ذلك أمرًا، فإِن استملحت منه شيئًا، فأجزني بدعوةِ صالحة، ولا تضَن علي بكلمة، حَيَّاك الله، وعافاك، والسلام عليك. (١) يقول العبد الضعيف: وفي تقرير آخرَ عندي، وأما تردُّد الفاروق في أَخْذ الجزية من المجوس، فلم يكن لأجل تردُّده في كونهم أهل كتاب، بل لما سمع عنهم أنهم يعتقدون بجوازِ نِكاح المحارم، ويفعلونه أيضًا، وكان دينُ الإِسلام لا يتحمَّل هذه الفاحشةَ، ولذا آمر بإخراج كلِّ مَنْ كان يَفْعَله من أيِّ دينٍ كان، فلما عَلِم معتقداتِهم السوآى، وظَنَّ أنهم غيرُ تاركيها لم يَأخُذ منهم الجزيةَ أيضًا، لأنه يُؤخذ مِمَّن أذن لهم بالإِقامة في دار الإِسلام، ولم يكن أَذِن لهم، ثم لما عَلِم أنهم التزموا أنْ لا يفعلوه، ويدينون لأحكام الإِسلام في هذا الباب، أَذِن لهم بالإِقامة، وحينئذٍ ضرب عليهم الجزيةَ.