كان من وزرائه، وكان يَسْجُدُ له. وهو أوَّلُ من دوَّن الجغرافية، وذكر فيه السدَّ، فَدَلَّ على أنه كان مبنيًّا قبل الاسكندر اليونانيِّ، اللهم إلَاّ أن يُقَالَ: إنه أراد به السدَّ الذي بناه ملكه، والظاهرُ هو الأوَّلُ. على أن اليونانيَّ لم يَخْرُج إلى مطلع الشمس والمغرب، ولكنه كان بسَمَرْقَنْد. وقاتل دار فقتله، ثُمَّ فتح الاسكندرية، ثم أتى أرضَ بابل، ورجع من ههنا إلى كابل، ثم إلى راولبندى حتى ألقى عصاه بموضع تيكسله، وضرب فيها سِكَّةً، ثم سافر إلى السند، ومات ثَمَّةَ. فليس اليونانيُّ هو ذو القرنين الذي ذكره القرآن. وراجع صورة العالم من آخر «التفسير» للشيخ عبد الحق الدَّهْلَوِي، فإنه مهمٌّ، ويَنْفَعُكَ في هذا الباب. واسْتَنْبَطْتُ من سفره إلى مطلع الشمس ومغربها، أنه لم يكن من سكانهما.
الفائدة الثانية في تحقيق موضع السد:
أمَّا الكلامُ في السدِّ، فاعلم أنه عديدٌ، والذي بناه ذو القرنين، هو في الجانب الشماليِّ عند جبل قوقيا. أما الذي هو في بلدة الصين في طول ألف ومئتي ميلٍ تقريبًا، فهو سدٌّ آخر. ومن ظنَّه السدَّ المعروفَ، فبعيدٌ عن الصواب. وسدٌّ آخر باليمين بناه شدَّاد، وظنَّ البيضاويُّ - وهو مؤرِّخٌ فارسٌ - أنه عند دربند ثم رَوَى الحافظُ عن صحابيَ:«أنه لمَّا رَجَعَ بعد رؤيته السدَّ، سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: رأيته كالبُرْدِ المُحَبَّرِ». وحمله الحافظُ على سدِّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ.
قلتُ: هذا غلطٌ، بل هو سدٌّ آخر كان باليمين، وسدُّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ في موضعٍ وراء بُخَارَى. ثم إن سدَّ ذي القرنين قد اندكَّ اليوم، وليس في القرآن وعدٌ ببقائه إلى يوم خروج يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ولا خبرٌ بكونه مانعًا من خروجهم، ولكنه من تَبَادُرِ الأوهام فقط. فإنه قال:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}[الكهف: ٩٩]{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} ... إلخ [الأنبياء: ٩٦] فلهم خروجٌ مرَّةً بعد مرةٍ. وقد خَرَجُوا قبل ذلك أيضًا، وأَفْسَدُوا في الأرض بما يُسْتَعَاذُ منه. نعم يكون لهم الخروجُ الموعودُ في آخر الزمان، وذلك أشدُّها. وليس في القرآن أن هذا الخروجَ يكون عَقِيبَ الاندكاك متَّصلًا، بل فيه وعدٌ باندكاكه فقط، فقد اندكَّ كما وَعَدَ.
أما إن خروجَهم موعودٌ بعد اندكاكه بدون فصلٍ، فلا حرفَ فيه. أَلَا ترى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عدَّ من أشراط الساعة: قبضَه من وجه الأرض، وفتحَ بيت المقدس، وفتحَ القسطنطينية، فهل تراها متَّصلةً، أو بينها فاصلةٌ متفاصلةٌ، فكذلك في النصِّ. نعم فيه: أن خروجَهم لا يكون إلَاّ بعد الاندكاك، أمَّا إنه لا يندلُّ إلَاّ عند الخروج، فليس فيه ذلك.