للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَأَطْلَقَهُ على عيسى عليه الصلاة والسلام، فجعل اللفظ: «وأَمَّكُمْ مِنْكُم»، يعني أنه إن كان


= توفِّق بينهما من عند نفسك، لا على أنه من الراوي. فليكن الراوي على الغلط، فإنه معذورٌ، لأنه لم تَبْلُغْه قطعةٌ أخرى. وأمَّا أنت، فقد بلغت إليك كلتاهما، فشأنُك بهما.
ولنوضِّح ذلك بمثالٍ، وهو أنه رُوِي عن جابر: "أن أوَّلَ السُّوَرِ نزولًا: المدَّثر" ورُوِيَ عن عائشةَ: "أنه سورة اقرأ" وتصدَّى الحافظُ إلى الجمع بينهما، مع أنه إذا نَظَرَ إلى جميع ألفاظ جابر، فإنها لا تَرْتَبِطُ بما ذكره الحافظُ، وتحْدُثُ ركَّةٌ. فإن زعَمَ أحدٌ أن هذا التوفيقَ عن جابر نفسه، فهو غلطٌ فاحشٌ، فإنه ليس في ذهنه إلَّا كون "المدَّثر" أول السُّورَ، وهذا الذي أدَّاه في روايته، وليس في ذهنه خطورٌ بتقدم "اقرأ" ليجب عليه إخراج الألفاظ التي تُلَائِمُهُ أيضًا. ولكنه من الحافظ، فإنه لمَّا وَجَدَ الحديثين جميعًا، وَجَبَ عليه التوفيق بينهما، فهذا هو وجهُ بقاء المنافرة بين الألفاظ، وتوجيه المتأخِّر.
وهكذا من رَوَى لك: أن قَيصَرًا إذا هَلَكَ، فلا قَيْصَر بعده، فليس في ذهنه إلَّا هلاك سلطنته رأسًا. كما: هَلَكَت سلطنة كسرى، فلا كسرى بعده. فلا يأتي إلَّا بألفاظ تَدُلُّ على هذا المعنى، فإذا صَحَّ عندنا من وجه آخرَ أنه يكون ذات قرون، وأن مُلْكَه يبقى شيئًا، وأن تتكسَّر شوْكَتُهُ، وَجَبَ علينا التوفيق مِنَّا. فإن كان ذلك التوفيقُ يُوجِبُ تخصيصًا، أو تقيدًا في قوله: لا قَيصَرَ بعده، فلا بُعْدَ فيه، فإنه واجبٌ عندنا لأجل حديثٍ صَحَّ عندنا. وأمَّا عند الراوي، فلعلَّه لم يَكُنْ في ذهنه إلَّا أن قَيصَرَ لا يبقى ملكه أصلًا، فلا يأتي إلَّا بألفاظٍ كذلك. فتلك الرِّكَّةُ حيثما كانت، إنما تكون بسبب ما قُلْنَاه. حينئذٍ لم يَبْقَ فيها ريبٌ وقلقٌ، وقد فصَّلْناه من قبل.
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن الرواةَ اختلفوا في بيان إمامة عيسى عليه الصلاة والسلام بعد اتفاقهم على نزوله، فعند مسلم: "لَيَنْزِلَنَّ ابن مريم حَكَمًا عَدْلًا"، وفي لفظٍ: "كيف أنتم إذا نَزَلَ ابنُ مريم فيكم، وإمامُكم منكم"، ولا مغلطة فيه، ولا مغالطة. وهكذا الحالُ إلى ثلاثة تابعين عن أبي هريرة: الزهري، وعطاء بن مِينَاء، ومولى أبي قتادة، كلُّهم رَوَوْا عن أبي هريرة، إمَّا على اللفظ الأول، أو على اللفظ الثاني. ثم جَاءَ أحدٌ من تَبَع التابعين، فاختلف فيه، فَرَوَاهُ: كيف أنتم إذا نَزَلَ ابن مريم فيكم، فأمَّكم". وجاء آخر، وقال: "فأمَّكم مِنْكُم". فَأَوْرَثَ نَبْوًا، فإن حرف "من" ليس صلةً للإِمامة، فاحتاج إلى التأويل. فذكره بعضُهم هكذا: قال ابن أبي ذئب: "تَدْرِى ما أمَّكم منكم؟ قلت: تُخْبِرُني، قالَ: فأمَّكم بكتاب ربكم عزَّ وجلَّ، وسُنَّةِ نبيِّكم صلَّى الله عليه وسلَّم". اهـ.
فهذه الألفاظُ كلُّها عند مسلم، واختَلَفَ فيه الرواة، كما رَأَيتَ، وأصلُ اللفظ: "وإمامُكم منكم"، كما عند البخاريِّ. وكما عند ابن ماجة: "وإمامهم رجلٌ صالحٌ"، والبواقي أوهامٌ، اختلط عليهم حديثٌ آخر عن أبي هريرة، عند مسلم، يرويه تابعيٌّ رابعٌ: سُهَيْل، عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى تَنْزِلَ الرُّومُ بالأعماق، أو بِدَابق"، ودَابِق: قيل: موضعٌ بقربِ خَيْبَرَ، فذكر الحديث، إلى أن قال: "إذا أقِيمَتِ الصلاةُ، فَيَنْزِلُ عيسى ابنُ مريم صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّهُمْ". اهـ.
والمرادُ من الإِمامة ههنا: إمامةُ الصلاة، وكان المرادُ في قوله: "وإمامُكم منكم": الإِمامةُ الكبرى، فنقلها إلى الحديث الأوَّل عن أبي هريرة، فقال فيه: "فأمَّكم" -على صيغة الماضي- كما عَلِمْتَ من لفظ مسلم. فلمَّا أحسَّ فيه خَلَلًا في المعنى، أضاف من جانبه "منكم" أيضًا. ثم احتاج إلى بيان المعنى، كما مرَّ عن ابن أبي ذِئْب: أن المرادَ من الإِمامة في الحديث الأوَّل الإمامة الكبرى، ومِصدَاقُهُ المهدي، أي يَنْزِلُ ابنُ مريم فيكم حَكَمًا عَدْلًا في زمانٍ يكون فيه إمامكم المهدي. وقد بيَّن هذا المعنى حديثُ ابن ماجه مفصَّلًا، وإسنادُه قويٌّ.
ثم اعلم أن الإِمامَ في أول صلاةٍ بعد نزوله عليه الصلاة والسلام يكون هو المهدي، وأمَّا في سائرها، فيكون هو ابنُ مريم صلَّى الله عليه وسلَّم. وهذا التطبيقُ من نفسي، لا أن الرواة رَاعَوْهُ. فإن أبا سُهَيل لم يُرِدْ بقوله: "فأمَّهم" -عند مسلم- إلَّا إمامته في تلك الصلاة. وهذا لفظه: "فبينما هم يُعِدُّون للقتال، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إذا أُقيمَتِ الصلاةُ، فَيَنْزِلُ عيسى ابنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّهُمْ اهـ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>