للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ويمكن عندي رؤيته صلى الله عليه وسلّم يقظةً (١) لمن رزقه الله سبحانه كما نقل عن السيوطي رحمه الله تعالى - وكان زاهدًا متشددًا في الكلام على بعض معاصريه ممن له شأن - أنه رآه صلى الله عليه وسلّم اثنين وعشرين مرة وسأله عن أحاديث ثم صححها بعد تصحيحه صلى الله عليه وسلّم وكتب إليه الشاذلي يستشفع به ببعض حاجته إلى سلظان الوقت، وكان يوقِّره فأبى السيوطي رحمه الله تعالى أن يشفع له، وقال: إني لا أفعلُ وذلك لأن فيه ضررُ نفسي وضررُ الأمة، لأني زرتُهُ صلى الله عليه وسلّم غير مرة ولا أعرفُ في نفسي أمرًا غير أني لا أذهب إلى باب الملوك، فلو فعلتُ أمكن أن أحرم من زيارتِهِ المباركة. فأنا أرضى بضررِك اليسير من ضررِ الأمة الكثير.

والشعراني رحمه الله تعالى أيضًا كتب أنه رآه صلى الله عليه وسلّم وقرأ عليه البخاري في ثمانية رفقة معه، ثم سمَّاهم وكان واحد منهم حنفيًا وكتب الدعاء الذي قرأه عند ختمِه. فالرؤية يقظة متحققة وإنكارُهَا جهلٌ. ثم عند مسلم في لفظ آخر: «فسيراني في اليقظة» ولعله حديث آخر ومضمون آخر يقتصر على حياته صلى الله عليه وسلّم وفيه تبشير بالصحابية لمن كان رآه في المنام، ولكن الراوي شك فيه وقال: أو فكأنما رآني، فوقع التردد في أنهما حديثان أو واحد. ونقل العيني رحمه الله تعالى فيه زيادة أخرى «فإني أرى في كل صورة» وهي تضرُ الطائفة الأولى فإنها تُشعر بالتعميم وأن لا تخصيصَ بحلية دون حلية.

أقول وظاهرُ حديث البخاري يؤيد الطائفة الأولى، سيما إذا كان من لفظه: فإن الشيطان لا يتكونني، وحينئذٍ صرفُ هذه الزيادة عن ظاهرها أولى، فإنها لا توازي حديث البخاري. وشرحُهَا عندي دفع استبعاد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا كان في المنام هو ولم يتمكن الشيطان من تمثله، فكيف تكون رؤيته في زمان واحدٍ لأشخاصٍ عديدة في أمكنة كذلك. والجواب: أنه ممكنٌ لأنه يُرى في كل صورة. أما أن تلك صورة مثالية أو عينه صلى الله عليه وسلّم فهو تابعٌ لمنامه قد تكون كذا وقد تكون كذا (٢).


(١) قلت: وقد بحث فيه السيوطي رحمه الله تعالى في رسالته: "تنوير الحَلَكَ في رؤية النبي والمَلَكَ" وملخصه على ما أحفظ الآن: أن عامَة المحدثين إلى النفي وعامة الأولياء إلى إثباتها، وراجع التفصيل منها إن شئت.
(٢) قلت: هذا آخر ما سمعت من شيخي رحمه الله تعالى في هذا الباب. وهو يُشعر أنه اختار مسلكَ ابن سيرين ومن نحا نحوه، ولم يُعمم أمرَ الرؤية، بل قصرها على مطابقتها بما في الخارج، ولذا احتاج إلى تأويل قوله: فإني أرى في كل صورة. وقد كنتُ كتبتُ عنه فيما مضى ما يُشعر بخلاف ذلك، وهو أن السؤال عن حليته ينبغي أن يقتصرَ على الزمان الذي كان فيه أحد ممن رآه - صلى الله عليه وسلم - حيًا كما في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وأما إذا لم يكن بقي فيه واحد منهم فلا ينبغي السؤال عنها كما هو اليوم، وهكذا يفعلون أهل العرف في رؤياهم، فإذا رأيت رجلًا في المنام وقد بقي ممن رآه في حياته يسألونك أنَّك كيف رأيت صورته؟ فلو ذكرت ما خالف حليته يكذبونك ويقولون: إنك ما رأيته، لأنه لم يكن على تلك الحلية.
وأما إذا مضى عليه، برهة من الزمان ولم يبق لأحدٍ ممن رآه فلا يبحثون عن حليته، وهكذا ينبغي، فإن المنازعة إنما تكونُ ممن كان رآه، وأما إذا انقطع أثرُه وذهب ذِكره وفِكره فلا يمكن المنازعة، ويحتاج إلى تصديق رؤياه إلى شهادة قلبه فقط، فإذا ألقى في قلبه أنه رأى فلانًا فإنّه كذلك، ولو خالفت حليته مما في الخارج، فكذلك ينبغي رؤيته النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُسأل عن حليته اليوم، لأنه لم يبق من الصحابة رضي الله عنهم ولا من رآهم ورأى من رآهم أحد، فمن الباحث عن الحلبة إنما هو شهادة القلب وبُشرى المؤمن، فتحقيقه هذا يعلُق بالقلب ويثلج به الصدر، إلّا أنه فيما أفهم راجعٌ إلى المذهب الثاني أو أمر بين الأمرين.

<<  <  ج: ص:  >  >>