وتشبَّثْنَا بذيل الشرع، فأفلحنا، ووجدنا منه في لمحاتٍ ما لم يَجِدُوه بعد صرف الأعمار. وعندي هم أعجزُ من جاهلٍ أوتِي سلامة الفطرة، ورُزِقَ توفيقًا من ربِّه.
حكايةٌ: سَمِعْتُ ببلدتي كشمير، وأنا إذ ذاك ابنُ أربع سنين: أن رجلين تكلَّما في أن العذابَ هو يكون للسجد، أو الروح؟ فاستقرَّ رأيهما على أن العذابَ لهما. ثم ضَرَبَا له مثلًا، فقالا: إن مثلَ الجسد مع الروح كمثل أعمى، وأعرج، ذَهَبَا إلى حديقةٍ لِيَجْنُوا من ثمارها، فَعَجَزَ الأعمى أن يَرَاهَا، وعَجَزَ الأعرجُ أن يَجْنِيَهَا، فتشاورا في أمرهما، فَرَكِبَ الأعرجُ على الأعمى، فجعل الأعمى يَذْهَبُ به إلى الأشجار، والأَعْرَجُ يرى الثمارَ، ويَجْنِيها. فهذا هو حالُ البدن مع الروح، فإن البدنَ بدون الروح جمادٌ لا حِرَاكَ له، والرُّوحُ بدون البدن معطَّلةٌ عن الأفعال، فاحتاج أحدُهما إلى الآخر، فلمَّا اشتركا في الكَسْبِ اشتركا في الأجر، أو الوِزْرِ أيضًا. وبعد مرور خمس وثلاثين سنة، رأيتُ في «القرطبي»، عن ابن عبَّاس عينَ ما قالاه من قطرتهما، فانظر هل يُمْكِنُ مثله من نحو أرسطو؟ كلا، ثم كلا.
قوله:(فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْني عَلَى الحَوْضِ) واعلم أن الحوضَ عند ابن القيِّم: في المحشر. واختار الحافظ: أنه بعد الصِّرَاط. وتردَّد فيه السيوطي في «البدور السافرة». والأَرْجَحُ عندي ما اختاره الحافظ. والظاهر عندي: أنه في فِنَاء الجنة بعد الحساب، لأن المواعدةَ باللقاء على الحوض تَدُلُّ على أنه بعد اختتام السفر، فإن الذين يتخلَّفون من رفقاء السفر، لا يَتَلَاقَوْنَ إلَّا بعد اختتامه.
٤٣٣٦ - قوله:(ما أُرِيدَ بَهَذِهِ القِسْمَةِ وَجْهُ اللَّهِ) وهذه كلمةُ كفرٌ، ولما كان قائلُها منافقًا، وكان من سُنَّتِهِم أن لا يُقْتَلُوا، أَغْمَضَ عنه، ولم يَقْتُلْهُ. وقد مرَّ فيه بعضُ الكلام: أنه من باب الجمع بين التكوين والتشريع، فإنه كان أَخْبَرَ بأن سَيَخْرُجُ من ضئضيء هذا قومٌ يَقْرَءُون القرآن ... إلخ، كما في «البخاري» مفصّلًا، فلم يُنَاسِبْ أن يَقْتُلَهُ بنفسه. وهذا بخلاف ما مرَّ عن بعض الصحابة من الأنصار عن قريبٍ:«يَغْرِفُ اللَّهُ لرسوله صلى الله عليه وسلّم يُعْطِي قريشًا، ويَتْرُكُنَا، وسيوفُنَا تَقْطُرُ من دمائهم»، فإنه إساءةٌ في التعبير فقط، مع صحةٍ في العقيدة. غير أنه حَمَلَتْهُم على ذلك غيرةٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلّم لمَّا فَهِمُوا من إعطائه قريشًا أنه يُؤْثِرُهم عليهم، والرقابة قد تَحْمِلُ المرءُ على مثل هذه التعبيرات. وهذا وإن كان غلطٌ منهم في حضرة النبوة، ولكنها لا رَيْبَ مما قد يُرَكِّبُها الإِنسانُ من حيث لا يريدها، ولا يدريها. وراجع للفصل بين هذه المسائل رسالتي «إكفار الملحدين»، ففيها البسطُ بما لا مزيدَ عليه.