للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

التوراةِ، فإِنَّهما لو كانا غَيْرَ مُحْصنَين لكانا باعتبار شَرْعِنا، ولكنهما لم يكونا لَيُقرّا بعدمِ إحصانهما من أَجْلِ شريعتنا، فإِذا ثبت إحصانُهما عند شَرْعِهما حلَّت بهما عقوبةُ الرجم.

وههنا وَجْهٌ آخَر أيضًا، وهو أَنَّه ناسب تنفيذ الرَّجْم لانعقادِ صورةِ المناظرة بينه صلى الله عليه وسلّم وبينهم، فإِنَّهم كانوا يُنْكِرُون كَوْنَ الرَّجْم شريعتَهم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَدَّعِيه، كالإِخبار بالغيبِ، فلما خرج في التوراة كما كان أخبر به، ناسب إجراؤه أيضًا، وإذن لا يكون رَجْمُه من باب تنفيذِ الحُكْم عليهم، بما في كتابهم، ولا من باب الحُكْم عليهم بِشَرْعه، بل يكون ذلك لداعيةِ المقام، فيقتصر على مَوْرِده، وإنْ شِئت جَمعت هذه الأعذارَ كلَّها، ولذا ذَكَرْت هذه الأُمورَ، لِتعلم أنَّ المقام قد احتفَّ بعوارِضَ شَتَّى، ولم يبق مُنْكَشِف الحال، فحينئذٍ جاز لنا التفصِّي عنه بِنَحْوٍ من المقال.

بقي إقامةُ البرهانِ على اشتراط الإِسلام في الإِحصان، فنقولُ: إنَّهُ رُوي عن عبد الله بن عمر: مَنْ أشرك بالله، فليس بِمُحْصَن. ورجالُه ثِقاتٌ، وإسنادُه قويٌّ (١)، إلَّا أنَّ الحافِظ مال إلى وَقْفه، وتصدَّى الحاكمُ إلى إثبَاتِ رَفْعه.

قلتُ: والذي يَحْكُم به الوجدانُ أنه مَوْقُوفٌ، لأنَّ مَذْهب ابنِ عمرَ عدمُ جواز المناكحةِ مع أهل الكتاب، على خلاف الجمهور، وقال: إنَّهم مُشْركون، وأيُّ شِرْك أعظمُ مِن ادِّعائهم أبناءَ للَّهِ تعالى. فكأَنَّ أهلَ الكتاب الذين يعتقدون بالبنوةِ وغيرِها كفارٌّ عنده، وليس أولئك مِن أهلِ الكتاب الذين أباح لنا القرآنُ مناكحتَهُم، لأنَّه شَرَط فيهم الإِحصانَ، وهؤلاء مُشْركون، لا يوجد فيهم شَرْطُ الإِحصان، وإذا انتفى الشَّرْط، انتقى المَشْروط. فلما عَلِمت من مذهبه ذلك، ظَنَنْت أنه لا يَبْعُد أن يكون: مَنْ أَشْرك بالله فليس بِمُحْصن، موقوفًا عليه.

ولنا ما أخرجه الشيخُ علاء الدين في «الجَوْهر النَّقي» (٢): أنَّ عمرو بنَ العاص أراد


= التوراة". وفي حديث البراء: "اللهم إني أَوَّل مَن أحيا أَمْرَك إذ أماتوه" ... إلخ. قلتُ: إلَّا أنَّ الحافظ ضعَّفه، وقال: إنَّ في سنده رَجُلًا مُبْهمًا. ثُم إنَّ الحافظ وَعَد في سورةِ آل عمران أنه يتكلم على قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} [آل عمران: ٩٣] في الحُدود، فراجعته، فوجدت في كتاب المحارِبين من أهل الكُفْر والردَّة تكلم فيه على قِصْة رَجْم اليهودِيَّين مبسوطًا، فراجعه في باب: أحكام أهل الذِّمة، وإحصانهم إذا زنوا، ورُفِعوا إلى الإِمام.
(١) حَكى البيهقيُّ روايةَ ابنِ عمرَ من وجهين، ثُم حكى عن الدارقُطْني أن الصواب أنهما موقوفانِ، فجاء العلامة المارديني، وأجاب عن إيرادِه، وقال: إذا رَفَع الثِّقةُ حديثًا لا يضرُّه وَقْفُ مَنْ وَقَفه، فظهر أن الصواب في الحديثين الرَّفْعُ. اهـ "الجَوْهر النقي" مُلخَّصًا. قلتُ: وقد أخرجه الشيخُ ابنُ الهُمَام أيضًا عن "مُسْند" إسحاق بن رَاهُويه.
(٢) قلتُ: ولم أجده في "الجَوْهر النَّقي" فلعله مِن سقط قلمي، أو خطأ بصري. أما مذهبُ ابنِ عمر فسيجيء عند البخاريّ في باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: ٢٢١] وفيه أنه سُئِل عن نِكاح النصرانية، أو اليهودية، فقال: إن اللهَ حرَّم المشركاتِ، وله أن يُجيب عن الآيةِ أن الله سبحانه جَوَّز نِكاحَ الكتابيات بِقَيْد الإِحصان، والمُشْركة ليست بِمُحْصنة. وسيجيء تفصيلُه في صُلْب الصفحة إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>