فوجدنا طول المدينة على خمس وسبعين درجةَ وعشرين دقيقة، وعرضها على خمسِ وعشرين درجة، وطول بيت المقدس على ستٍ وستين درجة وعشرين دقيقة، وعرضها على اثنتين وعشرين درجة ودقيقتين، وطول مكة على سبعَ وستين درجة وثلاث وثلاثين دقيقة، وعرضها على إحدى وعشرين درجة وأربعين دقيقة. وإنما أضربنَا عن بيان ذلك تحقيقًا لأنَّا لم نقتبس من ذلك العلم ما نُحلُّ به عُقدة الإِشكال، ولا نحبُّ أن نكون بصدده، فاكتفينا بالنقل عمن يتعاطاه، فمن أحب الوقوفَ عليه بالبرهان من طريق الحسبان فليراجع أهل الفن، فإنَّه يجد الأمر على ما ذكرنا. اهـ. (١) قلت: ثم رأيت أكثَر روايات الباب ساكتة عن ذكر الاستدبار بخلاف الاستقبال، فإنَّها ليست رواية في هذا الباب إلَّا وقد نهي فيها عن الاستقبال فلعلَّ رواية جواز الاستدبار جاءت عن إمامنا في مثل هذه الأشياء، ثم ما السرُّ في اختلاف صنيع الحديث، فإنه قد يذكر النهي عنهما، وقد يقتصر على النهي عن الاستقبال فقط ويترك النهي عن الاستدبار، كأنه جائز، ففيه سرٌّ عظيم سيذكره حضرة الشيخ رحمه الله في أوائل كتاب الصلاة في باب ما يستر من العورة إن شاء الله تعالى. قلت: ويخدِشُه في قلبي ما عند أبي داود عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنه أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بل نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس، لأنه يدل على أنه اختار تفصيل الشافعية، وأن استقبال البيتِ عند السُّترَةِ جائز، فإن كان الاستقبال بعد السترة في الصحارى جائزًا عند الشافعية أيضًا، لما أنها تصير كالبُنيان، فمذهبه عين مذهبهم، وإلاّ فقريب من مذهبهم مع شيءٍ من المغايرة. وكيفما كان إذا عُلم من مذهبه فكلامُه مع واسع بن حَبَّان عند مسلم ينبغي أن يُحمل على جوازهما عنده في البنيان مطلقًا، سواء كان بيت المقدس أو الكعبة شرفها الله، إلّا أن يقال: إن أحمد إنما تعرض إلى بيان محطِّ الكلام في مكالمته هذا، لا إلى مذهبه كائنًا ما كان، إلّا أن معارضته بمن كان يرى استقبال بيت المقدس مكروهًا فقط، وحينئذٍ لا تبقى فيه فائدة للأحناف رحمهم الله، بل يبقى حجة عليهم كما كان، ولم أرد بهذا الكلام غير التنبيه على أن حديثَه إنما يخرجُ عن موضِعِ النِّزاع إذا قرر مرادَه كما قرره أحمد رضي الله عنه، فإنه حينئذٍ لا يبقى حجةً علينا. وأما إذا كان كلامُه ناظرًا إليهما كما علمت؛ فهو حجةٌ باقية تحتجُ للتفصي عنها إلى وجوه ذكرت من قبل. ثم هذا وإن كان مفيدًا للشافعية من طرف، لكنه مضرٌ لهم من طرف آخر لدلالته أن العملَ الشائعَ في زمن مروان كان كمذهب الحنفية، وكان استقبال البيت إذا ذاك خاملًا خمولًا أفضى إلى إنكاره على ابن عمر رضي الله عنه، ولو كان الاستقبال أمرًا مباحًا عندهم كما قاله الشافعية، لما كان لهذا الإنكار معنًى، فعُلِم أن فيه نَذرَةً وخُمولًا كنَدْرَةِ وضعِ السواكِ موضع القلم عند الصلاة على زيد بن خالد عند الترمذي وقد زعم بعضهم أنه مفيدٌ للشافعية، مع أن الراوي إنما تعرَّض إلى نقله لنَدرة فعله لا لبيان السنة. =