ومعنى قول ابن عمر رضي الله عنه: نهى عن ذلك مجهولًا. أنه ليس فيه عنده نهيٌ صريحُ إنما هو اجتهاده من نظرةٍ نَظَرَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد لحاجته. ولو كان عنده حديث مرفوع لأتى به لاسيما عند المعارضة، وإنما لم يتعقبْه مروان بعدَه لأنه ليس من دأب السلف سيما بحضرة ابن عمر رضي الله عنه، فإنه صحابي جليل القدر ولعلك علمتَ أن بناءَ المذهبِ على التشريع العام والقانون الكلي أولى من بنائه على واقعة أو واقعتين، فإن الوقائع الجزئية لا تنكشف وجوهُها وأسبابها، وربما يكون تحت الأعذار، كما ثبت عنه أنه بال قائمًا عند سُبَاطة قوم، فلم يذهب أحدٌ إلى أن البولَ قائمًا سنة. فكذلك ينبغي أن لا يقال بجواز الاستدبار والاستقبال من جهة الوقائع الجزئية، بل الواقعةُ الواحدة فقط مع ورودِ ضابطةٍ كلية صحيحة صريحة في الباب، وهذا هو دأب الحنفية في جميع الأبواب، وهذا كمسألة البول، فإنهم لم يختاروا طهارة أبوال مأكول اللحم نظرًا إلى حديث العُرَنيين، فإِنه واقعةٌ جزئية، مع ورود التشديد في الباب، فاختاروه وجعلوه مذهبًا، وكذلك مسألة الفصلِ والوصلِ بين المضمضة والاستنشاق، لم يختاروا فيه الوصل لحديث عبد الله بن زيد مع صحتهَ لكونه واقعة جزئية كما سيتضح، وذهبوا إلى حديث عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكذلك حديث القُلَّتين رأوه كالواقعة الجزئيةِ لكونه غير منكشف الوجه والسبب، فلم يجعلوه مدارًا للطهارة والنجاسة، بل طلبوا له مَحملًا صحيحًا، وكذلك، مسألة الأوقات المكروهة جعلوا الأحاديث الواردة فيها قدوةً لم يستخفوها لأجل الوقائع الجزئية، وهكذا في غير واحد من المسائل.