= الغسل حتى قام به على ملأ من بني إسرائيل الذين آذوه فبرأه الله مما قالوا، مع أنه كان ستيرًا حبيبًا أفيسوغ لأحد أن يقول: إن موسى عليه السلام لم يكن حبيبًا، ويتمسك بهذه الواقعة، والعياذ بالله. ولكن الله سبحانه يفعل بخواصه ما يزيل به شين الأعداء عنهم. وكما ألقى عليه النصب في طريقه إلى خضر عليه السلام حين فقد الحوت ولم يلحقه تعب قلبه. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنسى لأسن. فهذه تقديرات إلهية تجري على خواصه تعالى وتكون فيه مصالح تقصر عن إدراكها الأنظار وتتراجع عن إحاطتها الأفكار. إذا علمت هذا فاعلم أن ما أخذته من المخافة وما غشيته من الخشية والرهبة كلها ألقيت عليه تكوينا ليراجع إلى من جعلها الله له سكنًا وترجع به إلى ورقة فيشيع خبره من قبلهم وبعد تصديقهم ويعلم أنه لم يزور دعوة من نفسه، ولكن الله سبحانه هو الذي ألبسه قباء النبوة حتى عرفه من عرفه وجهله من جهله ويصير بهذا الطريق دليلًا محكمًا على النبي صلى الله عليه وسلم نبي صادق حتى شهد به شاهد من أهله وشهد به ورقة الذي كان يعرف حال الأنبياء. فإذا كان ظهر أمر نبوته ظهورًا لم يشك فيه من سمع به من أهل العلم والعدل، فكيف بمن نبىء! ولكن الله سبحانه أراد بهذا الطريق أن ينطق به لسانًا من عالم أهل الكتاب ابتداء بدون دعوة منه ليكون حجة على أهل الكتاب وعونًا لتصديق العرب ولو كان ادعى أولا ثم صدقة آخرون لكان أيضًا طريقًا صحيحًا كما سبق بموسى عليه الصلاة والسلام حيث ادعى قومه من غير مصدق معه ولذا سئل أن يكون معه ردء يصدقه ولكنه صلى الله عليه وسلم تجلى أمره وانكشف حاله انكشافًا شهد به قبل دعوة منه كل من كان يعرف الأنبياء وأحوالهم. فكان صريحًا في أنه نبي الله ومن افترى عليه بالافتراء فقد افترى إثمًا عظيمًا. فظهر بهذا الطريق أن أمر نبوته كان فجأة من غير تهيؤ منه. بخلاف من كان يريد أن يمكر بالناس فإنه يهيىء لهم من عند نفسه ما يصرف به وجوه الناس إليه وهذا لم يسو أمرًا من عنده ولكن غشيته غاشيتة من ربه كاد ظهره أن ينقض بها فاضطر إلى التزميل. فالله سبحانه أظهر أمره بهذا الطريق على الناس. ولذا لم يقدر أن يذهب هو بنفسه ولكن ذهبت به خديجة رضي الله عنها وإذن لم يبق في نبوته ريب لرائب، وصار أول أمره شهادة من علمائهم وآخر أمره الدعوة بما أمره الله. فسائر الأنبياء ادعوا ثم صدقوا وهذا مصدق ثم داعى فهو الذي صدق قبل دعوته؟ وأين هم عن حمل الوقائع على المحامل الحسنة؟ نعم (إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا) فحملوا خشيته على تردده في نبوته جهلًا ووقاحة والعياذ بالله! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا. ولولا في قلبه من الإيقان والإذعان كأمثال الجبال لما حلمه على التردي بنفسه عند فترة الوحي، فإن إضاعة نفسه لا يستطيعه أحد إلا لحبيبه إذن ليس معنى قوله في الفتح إنك لرسول الله حقًا غير تسلية وتشفية وتذكار بالعهد الماضي، كما يدل عليه ما بعده "فيسكن عند ذلك جأشة". فعلم أنه كان تسكينًا وتسلية ولابد. ثم عند البخاري مصرح بأنه كان يفعله لأجل ما لحقه من الحزن ولذا قال تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} على قول ولم يقل إنك رسول الله حقًا: فلا تشك فيه ثم إني قائل لك أمرًا يضيق به صدري ولا ينطلق لساني ولكن أرجو من الله سبحانه أن يكون حقًا: وهو أن الإيمان بالمغيبات كما أنه يجب على الأمم كذلك يجب على أنبيائهم أيضًا بل هم أولهم وأولادهم به ولما كانت نبوة النبي أيضًا من المغيبات كما بين في علم الكلام فلا مناص أن يجب عليهم الإيمان بها أيضًا ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع المؤذن أشهد أن محمدًا رسول الله: "وأنا" "وأنا" والمغيبات نوع مغاير للشهادة. فكم من أشياء تبقى في المغيبات مجملة ولا تبقى في الشهادة وهذا أمر وراء الإذعان، فإن الإذعان قد يكون بالمغيبات أزيد من الشاهد ومع ذلك تبقى فيها أمور تتردد النفس في تفاصيلها ولا يزال يتردد ولا تقنع أبدًا حتى يصير الغياب شفاها. ولا يكون هذا التردد من تلقاء ضعف اعتقاد المتكلم بل هي ناشئة من نفس حقيقة الغيب فإنه لكونه غيبًا غير مشاهد لا تصفو حقيقته عند النفس كالمشاهد، فالتردد والتطلب إنما يكون في المتعلقات التي لا تدخل في الإيمان لا في نفس الشىء والإيمان به فإنه أمر مفروغ عنه. ألا ترى إلى قوله تعالى في سؤال إبراهيم عليه السلام عن أحيائه "أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي". أي الإيمان حاصل بالمرة ولكن إحياءك غيب فأريد أن أري الغائب شاهدًا لأزيل به ما يبقى في الغيب. وسماه طمأنينة فسؤاله لم يخالف إيمانه بل أكده لأن الإيمان هو الموجب للسؤال =