جاريًا والباقي طاهرًا، فهم الذين لا يحكمون بقدر العِلَّة، لأن حكمَ التَّنجيْس إن كان لحالِ النجاسة فالواجبُ أن يدارَ الحكمُ عليها، ويكون الحكم في القلتين وما دونهما سواء. ولكن المدار عندهم هو القلتان.
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فليس بمحدد أصلًا، كما قرره الطحاوي، ومسألة العشر في العشر ليست مرويةً عن الإِمام، وأَمرُها معلومٌ ولا نذكره، ثم لا فرق بيننا وبين المالكية إلا أنهم اعتبروا التغيُّرَ باعتابر الحِسِّ، واعتبرناه بحَسَبِ ظن المبتلى به. وأنت إن تأملت ظهر لك إن شاء الله تعالى أن أقربَ الأنظار إلى الشريعة هو الإِحالةُ إلى ظن المبتلى به، ولا أراك شاكًا في أن ما اعتبرته الشريعة في أكثر الأبواب هو الظنُّ دون الحس، فإِن كان الأمرُ في الأبوابِ الأُخر هو هذا، فليكن في هذا الباب أيضًا كذلك.
ثم ما من مذهب فيه إلا ويلزمُ عليه أَنْ يتركَ حديثًا من أحاديثِ الباب أن يؤوِّل فيه. فالمالكية يستدلون بحديث بئر بُضَاعة وأمثاله، ويتركون حديثَ القُلتين وحديثَ النَّهي عن البول في الماء الراكد وأمثالهما. وهكذا الشافعية يختارون حديث القلتين ويؤوِّلون في الباقي. والحاصل: أن كلًا منهم يأخذُ بحديثٍ في الباب ويجعلُه قاضيًا على جميع الأحاديث، ويحصرُ فيه مسألة المياه، فيشكِلُ عليه جمعُ الأحاديث على مورد واحد فتارة يلجأ إلى تأويل هذا، وأخرى إلى إعلال هذا، فصار كما قيل:
إِذا سد منه منخر جاش منخر
وأمَّا إمامنا الأعظم فإِنَّه لدِقَّة نظره لم يترك في الباب حديثًا إلا وقد عَمِلَ به ووضعه على الرأسِ والعينِ بدون ريب، وقال: إنَّ الله تعالى خَلَقَ المياه على أقسام: فمنها ماء الأنهار، ومنها ماء الآبار، ومنها ماء الفَلَوات والقِفار، ومنها ما تُحْرَز في البيوت والديار، والشريعة الغراء قد أعطت لكلٍ منها حكمًا حكمًا.
فحديث بئر بُضَاعة إنَّما ورد في مياه الآبار بعد إخراج النجاسة عنها لا حَالَ كونها فيها.
وحديث القُلتين في مياه العيونِ التي في الفلوات، ويكون لها نبع من تحتها وأَخْرَجَهٌ من فوقها، ويَبْقَى في الصحارى على طريق الدوام يَستقي منه النَّاس، يَردُون عليها ويَصْدرون عنها، ولا يكون فيها تيقنُ النجاسة، غير أَنَّها لمَّا لم تكن مصونةً محفوظةً، تسبقُ الأوهامُ إلى نجاستها، ويتزَّهُ العامَّة عن استعمالها.
وحديث ولوغِ الكلب وأمثاله في المياه المقطوعة المحرزة في الأواني. ولذا أخذها الحديث في العُنوان وقال:«طهورَ إناءِ إحدكم إذا ولغ فيه الكلب» ... فلا يغمس يده في الإِناء. كما أنه أخذ عُنوان الفلوات في حديث القُلتين. فدلت الأحاديث من حاقِّها على أنَّها جاءت موزعةً على مياه. ثم إنَّه لمَّا لم يتفق في البيوت إلا أن يَلَغَ الكلبُ، أو تشربَ منه الهرةُ، أو تقعَ فيه الفأرة، أو يغمسَ أحد فيه يده، فقد أخذ كله في العُنوان ثم بيَّن له حكمًا.
وحديثُ ماء الفلوات لا يكون فيها إلا ورود السِّباع، فذكر له حكمًا أيضًا، فلمَّا علمنا أنها