الأنجاس لا يظهرُ أثرُها في الفقه إلا عند وقوعها في الماء أو المائع. أما قطعُ المعاملة عنها والملابسة بها، فهذا بابٌ مفقود في الفقه وإن ظهر في بعض الجُزئيات كما في «الكبيرى»: أنَّه يُكره لُبْس الثوب النجس خارجَ الصلاة أيضًا، فهذا يُشير إلى قطع المعاملة عنه ما دام نجسًا. ونحوه نَسَبَ إلينا الشوكاني أييضًا، ولذا أقول: إنَّ أمر التوضؤ بخروج المَذْي وأمثاله محمولٌ على الفور لا عند القيام إلى الصلاة، فإِن المطلوبَ عند الشرع كونُ المؤمن على طهارةٍ وعدم تلطُّخه بالنجاسات. ولم يذكره من علمائنا إلا ما يستفاد من الجزئية التي ذكرتها عن «الكبيري».
قوله:(وكان عطاء) ... إلخ، واختار البخاري في الأشعار مذهبَ أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما قال ابن بَطَّال، وأيدَه بأثر عطاء، لأنَّه لما وسَّع فيه باتخاذِ الخيوطِ والحبال لَزِمَ أن يقولَ بطهارته جزمًا، فلو سقطت في الماء لا تُفْسِدُه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يجوز الانتفاع بأجزاء الإنسان كرامةً له وتحرزًا عن الامتهان. وفي رواية عند الشافعي أنها نجسة، فأشكل عليهم أشعارَه صلى الله عليه وسلّم لأنَّه ذهب جماعة إلى طهارة فَضَلاته صلى الله عليه وسلّم ونُسِبَ إلى إمامنا أيضًا، إلا أنَّي لم أجده فاستثنوها. وأراد الحافظ رحمه الله تعالى إخمالَ هذه الرواية، لأنَّها أصعب عليه جدًا، وصَدَعَ بها الشيخ العيني رحمه الله تعالى.
قوله:(سؤر الكلب) ... إلخ هذا هو الجزء الثاني من ترجمته. وفيه مسألةُ الآسار وتتعلقُ بها مسألة المرور فذكرها استطرادًا. وسُؤرُ الكلب طاهرٌ عند مالك رحمه الله تعالى (١). وفي «المدونة»: أنه سُئل عن وجه الحديث المرفوع، فقال: لا أدري. ولعلَّه عدَّهُ من سواكن البيوت كالهرة، فصار من الطَّوَّافين فسقطت نجاستهُ عنده. ثم جاء فضلاء المالكية وقالوا: إنَّ الغَسْل منه لأجل صفاء الباطن، فإنَّه أطلقَ عليه لفظ الشيطان في الحديث، فهو من باب التزكية والتحلية دون النجاسة. قلت: فارتفع باب الآسار عند مالك رحمه الله تعالى، حتى أن سؤر الخنزير أيضًا غير مؤثرٍ في الماء عنده، فإنَّ الكلاب والسِّبَاع كلها يَرِدُون علينا ونردُ عليهم، فلا أثر لآسارهم في التَّنجِيسِ عنده.
واختار الشافعي رحمه الله تعالى نجاسةَ سؤرِ الكلب والخنزير خاصة، ولم ير بسؤرِ السِّباع بأسًا. ثم شَرَطَ التَّسبيعَ في سؤر الكلب، وهو مذهب أحمد رحمه الله تعالى فيه وفي سائر النجاسات، حتى رأيت في كلام بعضهم التسبيع في الاستنجاء أيضًا.
والواجبُ فيه عندنا هو التثليث كما في البول والغائط، فإِنَّ سؤرَ الكلبِ ليس بأغلظ منهما. نعم، التسبيع مستحب كما في «الزَّيْلعي شرح الكنز». وصرَّح (الوبرى) باستحباب التسبيع عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما في «التحرير». وإنما اعتنيتُ بهذا النقلِ لأنه ليست
(١) قلت: قال الخطابي: وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه إذا لم يجد ماءً غيره توضأ به. وكان سفيان الثوري يقول: يتوضأ به إذا لم يجد ماءٌ غيره ثم يتيمم بعده. اهـ. قلت: وإذن صار كالنبيذ عند إمامنا رحمه الله تعالى.