والجواب بأن المراد من الشِّدة الحموضة فبيعدٌ، وأما قول: إن الشدةَ شدة الحلاوة، فخلاف ما يُستعمل الاشتداد في المسكرات.
فالحاصل أن الحافظَ لم يتيسر له الجوابُ من آثار الطحاوي، وأقول: إن الباب باب النصوص من القرآن، والأحاديث، وضرويات الدين، فلا بد من محامل تلك الآثار، ولكنها تكفي للاعتذار من جانب أبي حنيفة، وما في النسائي عن راو أن نبيذَ عمر كان صار خلًا، فإنَّما هو رأيُه.
وأقول: إن عصير العنب، والتمر لو كان مُزًّا وقَارِصًا، فلا منع فيه، والله أعلم، ولا يمكن قول الحافظ في المرفوع، محملًا لآثار الطحاوي عن عمر، فإنَّ في الألفاظ تصريحًا أنه صار مشتدًا، لا أنه قرُب إلى الاشتداد، ولأبي حنيفة أثر آخر أيضًا، وهو أن رجلًا شرب النبيذ من نِحية. الفاروق الأعظم، وأسكر، فحُدَّ، فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت من شنتك، فقال عمر:«حددتك من الإِسكار».
أخبرنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني إسماعيل أنَّ رجلًا عبَّ في شراب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق المدينة، فسكِرَ، فتركه عمر حتى أفاق، فحدَّه، ثم أوجعه عمر بالماء، فشرب منه، قالَ: ونبذ نافع بن الحارث لعمر بن الخطاب في المزاد، وهو عامل له على مكة، فاستأخر عمر حتى عَدَا الشرابُ طورَه، فدعا، فوجده شدييدًا، فصنعه في الجِفان، فأوجعه بالماء، ثم شرب، وسقى الناس.
وأعلى الأشياء لأبي حنيفة ما أخرجه الطحاوي مرفوعًا: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن أبي بردة ابن أبي موسى عن أبيه، قالَ:«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنا، ومعاذًا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرايين يصنعان من البر، والشعير: أحدهما يقال له: المِزر، والآخر يقال له: البِتع، فما نشرب؟» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «اشربا، والا تسكرا»، ويمكن أن يقال: إن المراد «باشربا» الأنبذة لا الماء، أو اللبن، أو غيرهما، لكن في الطحاوي، والنسائي «ولا تسكرا» فلا حجة لنا. وقال النسائي: إن لفظ: «ولا تسكرا» وَهَم الراوي، والفرق بين:«لا تسكرا»، ولا تشربا مسكرًا ... إلخ، واضحٌ، ولكن ما حكم به النسائي بأنه وهم الراوي غير متيقن.
وأطنب الطحاوي في المسألة، ما لا يوجد في غيره، ورأيت في كتاب أن النسائي كان رُمي بشرب النبيذ على مذهب العراقيين، ولعله أطنب الكلام لهذا الاتهام، ولم أجد الشفاء فيما ذكر أهل كتبنا، لكن في «العقد الفريد» شيءٌ زائدٌ على ما في كتبنا، فإِنَّه نقل توسيعًا في النبيذ عن السلف الكبار، وإني لم أجد رواية عن الشيخين موافقة لمحمد،