فرقنا في حكمها بالشدة والضَّعف، ويمكن أن يدخلَ في جُزْئيات المباشرة ما كان عليه العمل في ابتداء الإِسلام، أعني: الماء من الماء.
ثم اعلم: أنَّ الشريعةَ قد تدل على هذه المراتب بصنيعها ولا تفصحُ عنها، ولكنَّها تُفهمها بعرض الكلام وأطرافه، ومن جهة القرائن، فتنهى عن شيء ثم قد تردُ بفعله تارةً، فيحدثُ التعارض في بادىء النظر. والوجه أنه يريد أن لا يترتكبه الناسُ ويجتنبوا عنه، ومع ذلك يريدُ بيان المسألة والجواز، فيرد بالفعل تارةً ليُعْلَم جوازه. وهذا كالاستدبارِ نهى عنه الشرعُ كما نهى عن الاستقبال. ثم رُوي عنه الاستدبار عن ابن عمر رضي الله عنه كما فهمه الشافعية. وهذا ليُعلَم أن كراهيةَ الاستدبار دون كراهية الاستقبال، مع أن المطلوبَ التجنب عنهما، إلا أن الاستدبارِ متحملٌ في بعض الأحوال. ونظائرهُ كثيرةٌ وسنعود إلى إيضاحه في باب ما يستر من العورة بأبسط من هذا.
وبعد هذا التحقيق لم يبق تكرار في قوله:{جُنُبًا} وقوله: {لَامَسْتُمُ} على أنَّ ذكر الجَنَابة والسُّكر في صدر الآية لكونهما منافيين للصلاة، ثم ذكر حُكمَ الاغتسال، ثم كرر:{لَمَسْتُمُ} لبيان التيمم، فاندفع إشكال الطبري.
قال ابن الهُمَام: وإنَّما ناسب حملُ اللمس على معنى الجماع ليكونَ بيانًا لحكم الحدثين عند عدم الماء، كما بيَّن حكمهما عند وجوده. فإِن قلت: فما تقول في القهقهة فإِنه ليس داخلًا في الأصلين مع أنكم قلتم بوجوب الوضوء منه.
قلت: التحقيق عندي أن إيجابَ الوضوءِ منه ليس لكونه ناقضًا بل تعزيرًا كما في «البحر»: أنَّ في الوضوء من القهقهة قولان: الأول أنه تعزيرٌ فقط. وفرّع عليه أنه لو قهقهه رجلٌ في الصَّلاة فوضوءُه باطل في حق الصَّلاة فقط، على أنَّه صح فيه مرسلُ أبي العالية عند الدارقطني وإن وَصَلَهُ الثقات، إلا أن الوجدان لا يحكمُ بوصله، فيمكنُ أن يكونَ وَهَمًا. واختاره الأوزاعي أيضًا. ومن ههنا اندفع إيرادُ الزيادة على الكتاب بالخبر، فإِنّ القهقهة ليست داخلة في شيء من الأصلين اللذين ذكرهما النَّص في باب النواقض.
فإِن قلت: إنه لا مناسبةَ بين المرضِ والسفر، والإِتيان من الغائط واللمس، فإِن الأوَّلين من الحالات التي يتعسرُ فيها القدرةُ على الماء، والأخيران من النواقض، فكيف ناسبَ عدهما في سياق واحد؟ قلت: وإنما حَسُن سردُها في سياق واحد لدخولها كلها في حُكْم التيمم، فإِن قوله:{فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء}[المائدة: ٦] يشمل الكلَّ، سواء كان مريضًا أو مسافرًا أو آتيًا من الغائط أو جنبًا، فإِن هؤلاءكلهم إذا لم يَقْدِروا على الماء لفَقْدِه أو لعدم القدرة على استعماله، فإِنَّهم يتيممون على أنه جَمَعَ العذرين والناقضين، فكأن جمع هذا وهذا وهو لطيف.
(قال عطاء) كذا المسألةُ عندنا.
وقال جابر رضي الله عنه:«إذا ضَحِكَ في الصَّلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء». قلت: وعنه عند الدارقطني: «من ضَحِكَ منكم في صلاتِهِ فليتوضأ وليُعد الصَّلاة» وتكلَّمَ عليه الدارقطني، على أن الوضوءَ عندنا في القهقهة فقط. والحق أنَّ جابرًا لا يوافقنا.