من إدراكه، وينالُ من نعوته، ويَبْلُغُ مبلغَهما. فلا يمكن الوصولُ للإِنسان إلى ربِّه جلَّ مجده إلَّا بوساطة الصور. ولولا تلك، لوجدته يَؤُسًا قَنُوطًا، محرومًا عن الرؤية:
*كيف الوصولُ إلى سعاد، ودونها، ... قُلَلُ الجِبال، ودونهن حتوفُ؟!
وبالجملة لم يُخُبِرْنا ربُّنا تبارك وتعالى إلَّا بتلك الحِلْيَةِ، وعلَّلنا بها. فلا علمَ لنا إلَّا ما علمتنا، فنحن نهتدِ بها. فإن تعسَّر عليك إسنادُ الصورة إلى جَنَابه تعالى، وتراه خلافَ التنزيه، فاعلم أنَّ منشأَة أنَّك تَزْعُمُ اتحادَ الصورة مع زيِّها دائمًا، ولا تتعقَّلُ انفكاكَها عن الذات. وليس ذلك إلَّا لأنَّك مَارَسْتَ صورةَ الإِنسانِ، فرأيتَها قائمةً به، غيرَ منفصلةٍ عنه. مع أنَّ صورةَ الإِنسان أيضًا غيرُه، بل ما من شيءٍ إلَّا وصورتُه تُغَايِرُهُ. وإنَّما نحن أجسادٌ من عالم الناسوت، فالتبس الحالُ فينا.
ويدُلُّكَ على ما قلنا، أنك إذا رأيتَ المرآةَ وجدتَ فيها صورتَك؛ مع انعدام زِيِّ الصورة منها، فَدَلَّ على أنَّ الصورةَ قد تنفكُّ عن زِيِّها. ولولا ذلك لَمَا وَسِعَكَ أن تقولَ: إنَّك رأيتَ صورتَكَ في المرآة. فلمَّا أقرَّ به أهلُ العُرْفِ، عُلِمَ أنَّ صورتَك غيرُك، وقد تنفكُّ عنكَ أيضًا، إلَّا أنَّك كنتَ من عالم الناسوت، فضاهت صورتُك بنفسك. وهكذا في العلم، فإنَّه لا يَحْصُلُ فيه إلَّا صورةَ الشيء، دون الذات بعينها، وهي التي تسمَّى صورتُه الذهنيةُ.
ثم ههنا دقيقةٌ أخرى، وهي: أنه لا يَحْصُلُ لزيدٍ علمُ عمروٍ، بل لا يمكنُ أن يَحْصُلَ له علمُه، ما لم يكن عمرو من ملابسات زيدٍ بنوعٍ من التعمُّل، أعني به حصولَ نسبةٍ خاصةٍ بين زيدٍ وعمروٍ، حتى يُعَدَّ من صفات زيدٍ ومتعلقاتِه، وذلك بحصول صورته في الذهن. فإذا حَصَلَت صورتُه في ذهنه، وقامت به صار عمرو من ملابساته مثل صفاته، وحينئذَ يَحْصُلُ له علمُهُ. وهكذا الحالُ في المرآة، فإنَّها لا تُرِيكَ صورتَكَ حتَّى تكونَ قائمًا بها قيامَ الأوصاف بموصوفاتها، وهو بقيام شَبَحِكَ فيها. فإذا حَصَلَ فيها شبحُكَ، وصِرْتَ من ملابساتها، بنحوٍ من التعمُّل كصورة عمرٍو لزيدٍ، جَعَلتْ تُرِيكَ صورتَك. وإنَّما الفرقُ بين الصورتين: أن الذِّهْنَ تَنْطَبِعُ فيه صورةُ المعقولات والحسيَّات، والمرآةَ لا تَنْطَبِعُ فيها الأمورُ المحسوسات.
ولعلَّك عَلِمْتَ أنه لا بُدَّ لرؤية نفسه من نوع اثنينية، فما لم تَقُمْ تلك الاثنينيةُ بين المرء ونفسه، ولا يُمْكِنُ له رؤيتها. وحينئذٍ عُلِمَ أنَّه لا بُدَّ للإِنسان أن يكونَ مخلوقًا على صورته. فإنَّ العالمَ كلَّه كالمرايا لحضرة الرَّبِّ تعالى، والمتجلي فيها هو اللهُ سبحانه، وهي مسألةُ التجلِّي.
وما أقربُ حال الشَّبَح وزِيِّه بالصورة وزيِّها. فكما أنَّ الشَّبَحَ غيرُ زيِّ الشَّبَحِ، وينفكُّ عنه. هكذا فليفهم صورة الرحمن، فإنَّها غيرُ قائمةٍ بالباري تعالى، ومنفصلةٌ عنه. إلَّا أنَّه