للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لا يمكن رؤيةُ تلك الصورة من نفسها بنفسها، ما لم تقع الاثنينيةُ بين الرائي والمرئي، فخلق اللهُ تعالى الإِنسانَ، ليكونَ مظهرًا ومرآةً لصورته، ويتجلَّى فيه حتَّى يَظْهَرَ أمرُهُ في الأكوان، ويقالُ: إنَّ الإِنسانَ خُلِقَ على صورة الرحمن. وإلَّا فما للإِنسان أن يكونَ مظهرًا له، كما هو. وما للممكن أن تتجلَّى فيه صورةُ الرحمن كما هي. ولكن تلك أمثالٌ وأوهامٌ، ترتاحُ بها نفوسُ الصُّبَّة الهائمة، فيُعَلِّلون بها أنفسَهم، واللَّهُ تعالى أعلى وأجلُّ، وَسِعَ كرسيَّه السمواتِ والأرضَ، ولا يَؤُدُه حفظُهُما، وهو العليُّ العظيمُ (١).


(١) قلتُ: هذه مسألةٌ دقيقةً جدًا، بل أدقُّ المسائلَ من باب الحقائق. لم أَفُزْ بحاشيةٍ تَلِيقُ بها في هذه العُجَالة، إلَّا ما ذكره بعضُ المحققين، فَخُذْها منِّي راضيًا مرضيًا.
قال: أقول مستمسكًا بحبل الله الوثيق، ومستمدًّا ممن بيده ملكوت التحقيق: كما أنَّ القرآنَ عند أهل السنة من حيث حقيقته التي هي الكلامُ النفسيُّ القديمُ القائمُ بذات الله سبحانه، لم يكن في الأزَلِ ظاهرًا في صورة الأصوات والحروفِ الملفوظةِ، ولا في صورة الحروفِ المكتوبةِ، ولا المخيَّلةِ في الأذهان البشرية، ثم ظهر في تلك الصور جميعًا، فيما لا يزال، مع كونه منزَّهًا عن أن يكونَ حالًا في شيءٍ منها، ومن مُحَالها من حيث حقيقتُه. وإنَّما الحالُ فيها -أي في مُحَالها- صورُه ومظاهرُه. ولذلك لم يَلْزَمْ أن يكونَ ذا صورةٍ، ولا حَادِثًا، ولا عَرَضًا غير قارِّ الذات، ولا جَوْهرًا، مع ظهوره في تلك المظاهر التي منها جواهرٌ، كظهور الحروفِ المنقوشةِ في نحو الأحجار الموضوعة في جدران المساجد وغيرها، ومنها أعراضٌ، كالحروفِ الملفوظةِ، والمخيَّلةِ.
فكذلك، فَلْيُفْهَم ظهورُ الحقِّ سبحانه وتعالى في المظاهر المختلفة التي يُعْرَفُ بعضُها، وُينْكَرُ بعضها. فإنَّه سبحانه، وإن ظهر في أي مظهر شاء، متى شاء، لمن شاء، فإنَّه من حيث حقيقتُه، وذاتُه الذي ليس كمثله شيءٌ، منزَّهٌ عن كل صورةٍ في كل حالٍ، حتَّى في حال ظهوره في أيِّ مظهرٍ شاء. كما أنَّ الكلامَ النفسيّ منزَّهٌ عن كلِّ صورةٍ من تلك الصورِ الملفوظةِ، والمخيَّلةِ، والمكتوبةِ في كلِّ حالٍ، حتى في حال ظهوره فيها، مع كون تلك الصور كلِّها قرآنًا، حقيقةً شرعيةً، معلومةً في الدين ضرورةً لا مجازًا، وإن كانت دلائلَ على الكلامِ النفسيِّ.
فكذلك إذا تجلَّى الحقُّ في أيِّ صورةٍ شاء، فهو حقيقةٌ، وإن كان منزَّها عن الصورة من حيث ذاتُه، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ ربِّي الليلةَ في أحسن صورةٍ ... " الحديثَ. وقال: "أتاني الليلةَ ربِّي تبارك وتعالى في أحسن صورةٍ ... " الحديث وقال: "أما إنِّي سأحدثُكم ما حَبَسَني عنكم الغداةَ، أنِّي قُمْتُ فتوضأت، فصلَّيتُ، ما قُدّرَ لي، فَنَعَستُ في صلاتي حتَّى استثقلتُ، فإذا أنا بربِّي تبارَك وتعالى في أحسن صورة" الحديثَ. وقال: "رأيتُ ربِّي في صورة شابٌّ له وَفْرَةٌ". رواه الطبراني في السنة، عن ابن عبَّاسٍ.
ونُقِلَ عن ابن أبي زُرْعة الرازي أنه قال: هو حديثٌ صحيحٌ، كذا في "الجامع الكبير" للسيوطي. وفيه أيضًا: "رأيتُ ربِّي في المنام في سورة شابٌّ مُوَفِر في الخَضر، عليه نعلان من ذهبٍ، وعلى وجهه فراشٌ من ذهبٍ". رواه الطبراني في السنة، عن أمِّ الطُّفَيْل، امرأةِ أُبَيِّ بن كعب. وفيه أيضًا: "رأيتُ ربِّي في حظيرٍ من الفردوس، في صورة شابٌّ، عليه تاجٌ يَلْمَعُ البصرَ". رواه الطبراني في السنة، عن مُعَاذ ابن عَفْرَاء.
وفي "الجامع الكبير" عن الطبراني، وصحَّحه، عن حُذَيْفَة [بن] اليمان، قال: "سَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت ربي عز وجل الليلةَ في صورة شابٌّ، له وَفْرَةٌ، وفي رجليه نعلان من ذهبٍ، وعلى وجهه فراشٌ من ذهبٍ، وعلى رأسه تاجٌ يَلمَعُ البِصرَ". انتهى.
فقد أطلق على الظاهر: "في أحسن صورةٍ"، "وفي صورة شابٌّ" موصوفٍ بالصفات المذكورة أنَّه ربُّه تبارك وتعالى. كما أطلق على الآتي في الصورة التي تُعْرَفُ، وتُنْكَرُ، أنه اللهُ في الأحاديث السالفة - أي في إتيانه تعالى =

<<  <  ج: ص:  >  >>