الأصولُ الشرعية، مِنْ أَنَّ البينةَ على المُدعي، واليمينَ على المدعَى عليه، فكان الوجهُ ترجيحَ هذه الأدلة على ما يُعارِضُها، وتأويلُ البيهقي لروايةِ سعيد تَعَسُّفٌ، ومُخَالِفَةٌ للظَّاهِرِ، وحين قالوا: ما لنا بينةٌ عَقَّبَ عليه الصَّلاة والسّلام ذلك بقوله: «فيحْلِفُونَ لكم». فكيف يقولُ البيهقيُّ: وقد يُطالبُهم بالبيِّنَةِ، ثم يَعْرِضُ عليهم الأَيمان، ثُمَّ يَرُدُها على المُدَّعَى عليهم، ثُمَّ ذَكَرَ البيهقيُّ حديثَ عبدِ الرحمن بنِ بُجَيْدٍ، وإنكارِه على سَهْل، ثُمَّ حَكَى عن الشافعي أَنَّه قال: لا أَعْلَمُ ابنَ بُجَيْد سَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فإِنْ لم يَكُن سَمِعَ منه، فهو مُرْسَلٌ، ولسنا ولا إِيَّاكَ نُثْبِتُ المُرْسَل، وسَهْلٌ صَحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وسَمِعَ منه، فأخذت بحديثه.
قلتُ: ابنُ بُجَيْدٍ أدرك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان وغيرُه في الصحابة. وقال: العَسْكَري أُثْبِتُ له صُحبة، وصحح الترمذي مِنْ روايةِ حديث:«رُدوا السائل، ولو بِظُلْفِ محرق». وقد تَقَدَّمَ غير مرةٍ، أنّ مسلمًا أَنْكَرَ في اشْتِرَاطِ الاتصال، ثُبوتَ اللقاءِ والسَّمَاعِ، واكْتَفَى بإِمكان اللقَاءِ، فعلَى هذا لا يكونُ الحديثُ مرسلًا، وإنْ لم يَثْبُتْ سماعُه.
وقولُ الشافعي: ولسنا ولا إياك. صوابُه أَنْ يُقال: ولا أنت، ثم الظاهر أَنَّ كلامَه مع محمد بنِ الحسن، والذي في كُتبِ الحنفيةِ، أَنَّ مذهبَهُ ومذهبَ أصحابِه قَبول المُرْسل، وكذا مذهبُ مالك، وقد حَكَى ابنُ جرير الطبري أَنَّ ذلك مذهبَ السَلَفِ، وأَنَّ رَدَّ المُرْسَلِ لم يَحْدُث إلا بعد المئتين، وَسَهْلٌ وإِنْ سَمِعَ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولكن روايتُه لهذا الحديثِ مُرْسَلة، لأنَّه كان صغيرًا في ذلك الوقت، وذلك أَنَّه وُلِدَ سنةَ ثلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وغزوةُ خَيْبَر كانت سنةَ سَبْعٍ، وهذه القضيةُ قَبْلَ ذلك، حين كانت خَيْبَر صُلْحًا، لأَنَّه وَرَدَ في بَعْضِ طُرُقِ هذا الحديث في «الصحيحين»«وهي يومئذٍ صُلحٌ»، وأيضًا فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال لهم:«إما أَنْ يَدُوا صاحبكم، وإما أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ». وهذا اللفظ لا يُقال إلا لمن كان في صُلْحٍ وأَمَانٍ.
وقد صَرَّحَ سَهْلٌ في روايةٍ مالك: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رجالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِه. فهذا يَكْشِفُ لك أَنَّه أخَذَ القضيةَ عن هؤلاء، ولم يَشْهَدْها، فَتَبيَّنَ أَنَّ روايتُهُ لهذا الحديثِ مُرْسَلةٌ، ثُمَّ إِنَّ حديثَهُ مضطربٌ إسنادًا ومتنًا، أمَّا الإِسنادُ، فَلِمَا في اختلافِ الرُّواةِ عَنْ مالكٍ في قوله: أخبرَهُ رجالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قومِهِ، أو هو ورجالٌ، كما تقدم. وأمَّا المتن، فَمِنْ جِهةِ اختلافِ روايةِ يَحيَى، وروايةِ سعيد، ولمخالَفةِ ابنِ عُيَيْنَةَ، كما مرَّ، ومع إِرْسَالِه واضْطِرَابهِ خَالفَ الأصولَ الشرعية.
وحديثُ ابن بُجَيْد سَلِمَ مِنْ ذلك كلِّه، وروى معناهُ مِنْ وجوهٍ تَقَدَّم بعضُها، وسيأتي البعضُ، وهو الأَوْلَى بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم أَنْ لا يَأْمُرَ أحدًا بالحَلْفِ على ما لا عِلْمَ له،