الشافعيَّ أجابَ عنهُ بما يُخَالِفُونَ عمرَ في هذه القضيةِ مِنَ الأَحْكَامِ.
قلتُ: إِنَّما خَالَفُوهُ في تلك الأَحْكامِ، لأَنَّهُ قامتْ عندَهُم فيها أَدلةً أَقْوَى مِنْ قَوْلِ عُمر رضي الله تعالى عنه، وقد ذَكَرَ عيسى بنُ أَبَان في «كتابِ الحج» أَنَّ مُخَالِفَهُ قال: قَدْ تَرَكْتُم مِنْ حديثِ عمرَ أشياءُ، لأنَّهُ كَتَبَ إلى عامِلِهِ باليمينِ:«إِبْعَثْ بهم إليَّ بمكةَ»، وأنتم تقولون: تُدْفع إلى أَقْربِ القُضَاةِ وفيه: أَنَّه اسْتَحْلَفَهُم في الحِجْر، وأَنتم تُنْكِرُونَ أَنْ لا يَسْتَحْلِفَ إلا في مَجْلِسِ الحُكْمِ حيثُ كان، وفيه أَنَّهُ قال لعامِلِهِ:«إبْعَثْ إليَّ بخمسينَ رَجُلًا»، وعندَكُم: الخيار للمدَّعي، وفيه:«حَقَنْتُم بأَيمانِكم دِمَاءَكم»، وعندَكُم: إِنْ لم يَحْلِفُوا لم يُقْتَلُوا، ثُمَّ أجابَ ابنُ أَبَان عَنْ ذلك بما مُلَخَّصُه: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتولَّى الحُكْمَ أَنَّ عاملَهُ لا يقومُ فيه مُقَامه، لِيَنْتَشِرَ في البلادِ، ويعملَ به مِنْ بَعْدِهِ، ولهذا فَعَلَهُ في أَشْهُر المَواضِع، وهو الحِجْر، ليَرَاهُ أهلُ المَوْسِم، ويَنْقُلُوهُ إلى الآفَاقِ، ولا شَكَّ أَنَّ نُوَّابَهُ كانوا يَقْضُونَ في البلادِ النَّائِيَةِ، ولو وَجَبَ حَمْلُ كلَّ أحدٍ إليه لم يَكْتُب إلى أبي موسَى وغيرِهِ في الأَحْكَامِ، ولهذا لم يَسْتَحْلِف عمرُ والأئمةُ بعدَهُ أحدًا في الحِجْر، وإِنَّما كَتَبَ عُمَرُ أَنْ لا يُقْتَل نفسٌ دُونَهُ احتياطًا، واستعظامًا للدَّم، ولم يَقُل: إِبْعَث إليَّ خمسينَ تَتَخَيَّرُهم أَنْتَ، ولم يَكُنْ يولي جاهلًا، فإِنَّما كَتَبَ إلى مَنْ يَعْلَم أَنَّ الخِيَار للمُدَّعين، لأَنَّه لهم يَسْتَحْلِف، فكيفَ يَسْتَحْلِفُ مَنْ لا يُرِيدُونَهُ، وإِنَّما قال: حَقَنْتُم بأَيْمَانِكُم دِمَاءَكُم، لأَنَّهم لو لم يَحْلِفُوا حُبِسُوا حتى يُقِرُّوا، فَيُقْتَلُو، أو يَحْلِفُوا، فأَيْمَانُهم حَقَنَتْ دِمَاءَهم، إِذْ تَخَلَّصُوا بها مِنَ القَتْلِ، أَوْ الحَبْسِ، كقولِهِ تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ}[النور: ٨] فلو لم تُلَاعِن حُبِسَتْ حتى تُلاعِن، فَتَنْجُو، أَو تُقِرَّ، فَتُرْجَم. ثُمَّ ذَكَرَ البيهقيُّ: أَنَّ الشافعيَّ قِيلَ له: أَثَابِتٌ هو عندَكَ - أي قَضِية عُمر؟ فقال: لا، إِنَّما رَواهُ الشَّعْبِيُّ عنِ الحارثِ الأَعْوَرِ، والحارثُ مجهولٌ، ونحنُ نَرُوي بالإِسنادِ الثَّابتِ أَنَّه بَدَأَ بالمُدَّعِين، فَلَمَّا لم يَحْلِفُوا، قال:«فَتُبْرئكم يهود بخمسين يمينًا»، وإِذْ قال:«فتبرئكم»، فلا يكون عليهم غَرَامة، ولمَّا لم يَقْبَل الأنْصَارِيُّون أَيْمَانَهُم، ودَاه عليه الصَّلاة والسَّلام، ولم يَجْعَل على يهود شيئًا.
قلتُ: لم يَذْكُر أَحَدٌ فيما عَلِمْنَا أَنَّ الشَّعْبيَّ رَواهُ عنِ الحَارِثِ الأَعْوَرِ غيرَ الشافعي، ولم يَذْكُر سندَهُ في ذلك، وقد رَواهُ الطَّحاويُّ بِسَنَدِهِ عنِ الشَّعْبي عن الحارثِ الوادعي، هو ابن الأزمع، وسيأتي أَنَّ مُجَالِدًا رواه عن الشَّعْبي كذلك، ورِوَايةُ أبي إسحاقٍ لهذا الأَثَرَ عن الحارثِ هذا عن عُمرَ أَمارَةٌ على أَنَّهُ هو الواسِطةُ، لا الحارثُ الأَعْورُ، كما زَعَم الشَّافعي، ورواهُ أيضًا عبدُ الرَزَّاقِ عن الثَّوْرِيِّ عن منصورٍ عن الحَكَمِ عنِ الحَارِثِ بنِ الأزمع، والحارثُ هذا ذَكَرَهُ أبو عُمر وغيرُه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في الثِّقَاتِ مِنَ التابعين، ثُمَّ إنَّ الحارثَ الأعورَ، وإنْ تَكَلَّموا فيه، فليس