للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الشجرةَ إلهًا إلا مصابٌ، أو مجنونٌ، فلم يَكُنْ فيه محلُ ريبٍ، وكان بديهيًا أَنَّ هناك أَمْرٌ غيبي، وليس المُتَكَلمُ هو الشَّجَرةُ حقيقةً؛ وبالجملةِ قد ثبت إسنادُ كثيرٍ من الأشياءِ في السَّمْعِ، ولا يَرْضَى الأشعريُّ إلا بقَطْعِها عنِ اللَّهِ تعالى، مع أَنَّ القرآنَ على ما يَظْهر لا يَسْلكَ مَسْلَكَ تلكَ التنزيهاتَ العَقْلِيةِ، وعلى نِقَاضَتِه الحافظُ ابنُ تيمية، فإِنَّه لمَّا بالغٍ في إثباتِها، وشدَّد فيه قاربَ المُشَبِّهةَ في التعبيرِ، فهذا حالُ التَّجَاوز عن الحدودِ، ومن أَتَى عليه لا يَخْلصُ عن العدولِ عن الصَّوابِ.

والفَصْلُ في تلك الأسانيد عندي، أَنَّها تُتْرَكُ على ظاهرِها إذا لم تَكُن موهمةٌ مَغْلَطة، كحالِ الشجرة، فإنَّه يُسْتَحَقُ مِنْ يَدَّعي كونَ تلكَ الشجرة إلهًا، مع إِذْعَانِهِ أَنَّها كانت شجرة كسائرِا لأشجار، قَبْلَ تَكلُمِها بالكلامِ الذي كلمته الآن، فهل ههنا مَغْلَطة بكونِا إلهًا بَعْدَ التكلم بتلكَ الكلمة، وإِذَا كان بُطلانُه مِنْ أَجْلَى البديهاتِ، يُتْرَك القُرآنُ في مثله على ظاهِرهِ، وأَمَّا إذا كان غيرَ ذلك، فغير ذلك، والعياذُ بالله مِنَ الزيغِ والإِلحادِ.

وبالجملةِ قولوا: إِنَّ اللَّهَ تعالى ليسَ كمثلِهِ شيءٌ، واكتَفُوا بهذا القدرِ مِنَ التنزِيهِ، ولا تَحْكُموا على اللَّهِ بِشيءٍ مِنْ عند أَنْفُسِكُم، وبعدَ ذلك أَسْنِدُوا إليه كلَّ ما هو مسندٌ إليه في نفس كلامِهِ، ولا تَخَافُوا، ولا تَحْزَنوا، أَليس أهلُ العُرفِ قد يَحْذِفُون الوسائِطَ في بعضِ المَواضِع، ويُسْنِدون الفعل إلى ما ليس بفاعلٍ له، ولا يعدون ذلك شيئًا له، كقولهِم: بَنَى الأميرُ المدينةَ، وهزمَ الأميرُ الجُندَ، مَعَ أَنَّه معلومٌ أَنَّ البِنَاءَ لم يُسْنَدْ إلا إلى البَاني حقيقةً، والأميرُ ليسَ بِبَاني، غيرَ أَنَّهُ لمَّا كان آمِرًا ومُسَبِبًا حَلَّ مَحلَّ الباني، وأُسْنِد إليه ما يُسْنَدُ إلى البَاني، فهكذا حالُ الأسانيدِ التي وَرَدَت في السمع، فليتْرُكْهَا على ظواهِرِها، كما وَرَدَتْ في النَّصِ مُسْنَدَةً، والأشعريُ يَنْفِيهَا أيضًا، وأمَّا الحافظُ ابنُ تيمية فَحَقَّقَها في الخارج حتى قَارَبَ التَّشْبِيه، كما كُنْتُ سَمِعْتُ مِنْ حالِه، أَنَّهُ كان جالسًا على المِنْبَرِ، فَسَأَلَهُ سائِلٌ عن نُزُولِهِ تعالى، فَنَزَلَ ابنُ تيمية إلى الدَّرَجةِ الثانيةِ، فقال: هَكَذَا النُّزُول، فَحقَّقَهُ في الخَارِجِ، وبالَغَ فيه، حتى أَوْهَم كلامُهُ التَّشْبِيه. والصَّوابُ إِنْ شاء الله تعالى ما ذَكَرْنَا (١).

٦٩٣١ - قوله: (يَخْرُجُ في هذه الأُمَّةِ - ولم يَقُلْ منها - قومٌ) أي لمَّا وَصَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّم الخَوارِجَ، لم يَقُل في حقهم: يَخْرُجُ مِنْ هذه الأمةِ قومٌ سِمَاتُهم كذا، بل قال: «في هذه الأمة» وبينهما فَرْقٌ، فإنَّ قولَهُ صلى الله عليه وسلّم من هذه الأمة، يَدُلُّ على كَوْنِهم مِنْ أَفْرَادِ هذه الأمة


(١) قلتُ: وسَمِعْتُ مِنَ الشَّيخِ أنَّ ابنًا للإِمامِ أحمد، كان يشرحُ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "قلوبُ بني آدم بين إصبَعي الرَّحمن" -أو كما قال- فَأَشَارَ بإِصبَعيه، يُصَوِّرُه، فَكَرِهَهُ أحمد، ولم يُحب تلكَ الإِشَارة عند ذِكْرِ أصَابعِ الرَّحمنِ، فإِنَّها توهمُ التَّشبِيه، واللهُ تعالى أعلم بالصَّواب.

<<  <  ج: ص:  >  >>