وغيرُ الملجىءِ: وهو الإِكْرَاهُ القَاصِر، بأنْ لا يَخافَ به على نَفْسِهِ، ولا على تَلَف عُضوٍ مِنْ أَعْضَائِه، كالإِكْرَاهِ بالضَّرْبِ الشَّدِيدِ والحبسِ، فإنَّه يُعْدِمُ الرَّخاءَ، ولا يُوجِبُ الإِلجاءَ، ولا يُفْسِد الاختيار، بخلافِ النَّوعِ الأَوَّل، وهذا النَّوع لا يُؤَثِّر إلا في تَصْرُّفٍ يَحْتَاجُ فيه إلى الرِّضَاء، كالبيعِ، والأول يُؤَثِّر في الكُل، ومِن ههُنَا علمتَ أنَّ الإِكْرَاه في شُرْب الخَمْرِ وأكل الميتة، ليس كالإِكرَاه في البيع ونحوِه. فإِنْ قال لهُ: لَتَشْرَبَنَّ الخَمْرَ، أو لِنَقْتُلَنَّ أبَاكَ أو ابنَكَ، لم يَسَعْهُ أَنْ يَشْرَبَها، لأَنَّ حُرْمَةَ هذه الأشياء ثابتة بالنَّصِ، ولا تُباحُ إلا عند قيام الضَّرُورَةِ، وهي حالة الاضطِرَارِ، كما في المَخمَصَةِ، وهو لا يَتَحَقَّقُ إلا بإِكراه مُلْجىءٍ، بأنْ يخاف على نَفْسِهِ، أو عُضْوِهِ، ولو أَكْرَهَهُ على البيعِ في الصُّورَةِ المذكورةِ، لم يَلْزَمْه البيعَ استحسانًا، ويُعْتبَرُ في مِثله الإِكرَاه، لأنَّهُ مما يَحْتَاجُ إلى الرِّضَاء، والإِكرَاهِ بِكِلَا نَوْعَيْهِ -المُلْجِىء، وغيرِ الملجىء- يُفْسِدُ الرِّضا الذي هو شَرْطُ هذه التَّصرفات. وجملةُ الكلامَ أَنَّ الإِكرَاهَ المُلْجِىء يُؤثِّرُ في سائرِ الأَنوَاعِ، فلو أَكرَهَهُ على شُرْبِ الخَمرِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ أو عُضْوِهِ، وَسِعَهُ أَنْ يَشْربَها، وإِنْ فَعَلَهُ في البيعِ لا يَلْزمْهُ. أَمَّا في غيرِ المُلْجِىءِ، فإنْ تَحَقَّقَ فيما لا يَعْتَمِدُ الرِّضَاء، كشُرْبِ الخَمْرِ، لم يَسَعْهُ شُرْبها، وإنْ تَحَقَّقَ فيما يَعْتَمِدُ الرِّضَاء كالبيعِ يُعْتَبَر بهِ، ولا يَلْزَمُهُ البيعَ في الاستحسانِ، كما ذكرنا، وإن كان القياسُ يَحْكم بالتسويةِ بَيْنَ الفَصْلَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ التهديدَ بِقَتْل الأبِ أو ذي رَحِم مُحْرَم، يُحَقِّقُ الإِلْجَاءَ ولو قاصرًا، فإنَّ الإِنسانَ حَرِيصٌ على القِتَالِ دُونَهم، ومولعٌ بصيَانَةِ دِمَائِهم ولوعَه بِصِيَانةِ دَمِه، أَمَّا إذا هَدَّدَهُ بِقَتلِ أجنبي، فإِنَّه ليس مِن الإِكرَاهِ في شيءٍ. أمَّا كونُه واجبًا في نَفْسِهِ، فلا نُنْكِرُهُ، ولكنَّه بابٌ آخر، وليس كُلُّ ما يجبُ على الإِنسانِ فِعْلُه يتحقَّقُ به الإِلْجَاءِ، والبُخاريُ لمَّا لم يُدْرِكْ الفَرْقَ بين الطَّائِفَتَيْن، جَعَلَ الإِكرَاه بِقَتْلِ الأبِ كالإِكْرَاهِ بقتله الأجْنَبِي، وقد أَدْرَكَهُ إمامُنا أبو حنيفةَ، فقال به: كيفَ! ومسائلُ الميراثُ، ووجوبُ النفقة ونحوُها تنادي بأعْلَى نِدَاءٍ على أَنَّ بين الأَجْنَبي، وذي رَحِم مَحْرَمٍ بَوْنَاً بعيدًا، حيث يثبتُ الميراثُ لهم دون الأجنبي، وَأوْجَبَ عليه النَّفَقَةَ لأقاربه، بخلافِ الأجانبِ، ونحوَ هذه الفُروق غيرُ قليل في الفِقْه، فكيف حَكَمَ البخاري بالتسويةِ بين الطَّائِفتَين، مع وجودِ فارقٍ بينهما مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ؟ ثُمَّ إنَّ حِفْظَ دَمِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ لو كان واجبًا على الفورِ، فَهَلَّا عَجَّلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى استيفاءِ دم خُبَيْبٍ، فَعُلِمَ أن وجوبَ حِفْظِ دم امرِىءٍ مُسلِمٍ على الفَورِ، ليس بضابطةٍ كُلَّيَةٍ. إذا علمت هذا، فاعلم أَنَّ مُلَخَّص إيرادِ البُخاري في هذا الباب أمران: الأول: تفريقُ الإِمام الأعظم بين حُكمِ الأَقاربِ وبين الأجنبي المُسلمِ، مَع قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: المسلمُ أَخُ المُسْلِم. والثاني: فَرْقُه بين حُكْمِ شُرْبِ الخَمْرِ ونحو البيع. =