ما يُوجَدُ مرَّةً، ويَنْعَدِمُ أخرى. وما لا يُوجَدُ أزلًا، وأبدًا فهو ممتنعٌ عندهم. هكذا صرَّح به ابن رُشْد. فلمَّا جاء ابنُ سِينَا، ورأى أن بعضَ قواعدهم لا يُوَافِقُ الشرع، أَرَادَ أن يتخذَ بين ذلك سبيلًا، فاخْتَرَعَ الإِمكانَ بالذات، والمستحيلَ بالغير. فإِطلاقُ الممكن بالذات مع الاستحالة بالغير إنما يَسُوغُ على مذهبه، ولا يَجِبُ علينا تسليم اصطلاحه، بل هي واجبةٌ عندنا، لكونها ضروريةَ الوجود، وليست بحيث تُوجَدُ مرَّةً، وتَنْعَدِمُ أخرى، فلا تكون ممكنةً.
بقي أن وجوبَها هذا بالنظر إلى ماذا؟ فذاك أمرٌ لم يَخُضْ فيه قدماء الفلاسفة ولا يُعْقَلُ، وذلك اعتبارٌ ذهنيٌّ، فإن الواجبَ بالغير إذا سَاوَقَ الواجب بالذات في استحالة الانعدام، لم يَبْقَ بينهما كثيرُ فرقٍ إلَّا باعتبار الذهن، وذلك أيضًا ينبني على اعتبار هذا الغير خارجًا. فلو اعْتَبَرْنَاهُ داخلًا، عاد إلى الواجب بالذات، لكون الوجوب حينئذٍ من مقتضيات الذات دون الخارج.
وأمَّا قولُهم: إن القيامَ بالغير يُلَازِمُ الاحتياج، وهو مناطُ الإِمكان، فباطلٌ أيضًا، لبنائه على قواعد ابن سِينَا. فإن نفسَ الاحتياج لا يُوجِبُ الإِمكان عندنا، لأنه عبارةٌ عن وجود شيءٍ مرَّةً، وانعدامه أخرى. فإذا لَزِمَتْ تلك الصفات ذات الواجب لزومَ الضوء لجرم الشمس، فقد وُجِدَتْ مع الذات أزلًا وأبدًا، ولم تنفكَّ عنها في الخارج أصلًا. فهي إذن واجبةٌ على مذهبنا، فإِنا لا نقول: إلَّا أنَّ الممكنَ ما يَنْعَدِمُ ويُوجَدُ.
وصرَّح ابن رُشْدٍ: أن قدماءَهم كانوا يَقُولُون: بأن الفلكَ واجبٌ بالذات، وممكنٌ بالتحرُّك. فلمَّا جاء ابنُ سِينَا، وزَعَمَ أنه قولٌ لا يَسُوغُ في الشرع أصلًا، غيَّر في التعبير إلى ما رَأَيْتَ.
أمَّا قولُهم: بأن زيادةَ الصفات تُوجِبُ الاستكمال بالغير، فليس بشيءٍ. كيف وأن الشيخين منهم ذَهَبَا إلى أن علمَ الباري تعالى حصوليٌّ، فهل لَزِمَ منه الاستكمال بالغير. والعجبُ من هؤلاء أنهم نفوا كثيرًا من صفاته تعالى، فنفوا عنه القدرة، والإِرادة، وغيرها. بقي العلم، فقالوا: بأنه حصوليٌّ، فيكون غير الذات لا محالة. فلم يَبْقَ إذن لقولهم بعينيَّةِ الصفات مفهومٌ محصَّلٌ. وقد كَشَفْنَا عن مغالطتهم في المقدمة مفصَّلًا، فراجعه منه.
فالصوابُ أن الله سبحانه عزَّ برهانه، ليس مجرَّدًا عن الكمالات في مرتبةٍ من المراتب، بل تلك الصفات من فروع كمال الذات، كما عبَّر بهذا ابن الهُمَام في «التحرير». ولولا الذاتُ كاملةٌ بحسب نفسها، لَمَا كانت فيها تلكل الصفات، فإنها