للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بالابتداع والاعتزال. حتى جَلَبُوا عليه من المصائب ما لا حاجةَ لنا إلى نشرها، والله يَغْفِرُ لنا، ولهم (١).

وإذن لا بُدَّ لنا أن نوضِّحَ مراده رحمه الله تعالى، ولنمهِّد له مقدمةً تُعِينُكَ في فَهْم المراد، وهي: أن المفعولَ المطلقَ أصلٌ سائر المفاعيل، ولذا قدَّموه في الذكر، وذلك لكونه فعلَ الفاعل حقيقةً، نحو ضَرَبْتَ ضرًا، فلا شكَّ أن ما هو فعلٌ هو الضربُ لا غير. أمَّا المفعولُ به، فليس من فعلك أصلًا، ولكن هو لذي يَقَعُ عليه فعلُك، فنحو ضَرَبْتَ زيدًا، معناه أن ضَرْبَكَ الذي هو فعلُك وَقَعَ على زيدٍ الذي ليس من فعلك. فالمفعولُ به ليس من فعل الفاعل، ولا تأثيرَ له فيه، فهو مُسْتَغْنًى عنه باعتبار ذاته، وإن كان مَوْرِدًا لفعله. نعم أثرُ فعله هو المفعولُ المطلق.

قال ابنُ الحَاجِبِ: إن السماوات والأرض في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: ١] مفعولٌ مطلقٌ، وذهب الجمهورُ إلى أنها مفعولٌ به. وذلك لأنَّ المفعولَ المطلقَ عند ابن الحاجب لا يكون موجودًا من قبلِ، بل يُوجَدُ من فعل الفاعل. والمفعول به ما كان موجودًا من قبل، ثم يَقَعُ عليه فعل الفاعل. ولمَّا كانت السمواتُ والأرضون معدومةً من قبل، أَوْجَدَها فعل الرَّبِّ سبحانه، سمَّاها مفعولًا مطلقًا على اصطلاحه. كسائر أفعال الممكنات، فإِنها من أفعال الفاعلين، تُوجَدُ بفعلهم. فالضربُ لا يتحقَّقُ إلَّا بضرب زيدٍ، وكذلك الأفعالُ الجزئيةُ الخاصَّةُ لا تحقُّق لها إلَّا من جهة فاعلها. وأنت تَعْلَمُ أن كلَّ فاعلٍ لا يَحْتَاجُ في فعله إلى مادَّةٍ، ولكن الاحتياجُ إليها إنما يكون إذا كانت المادةُ موردَ الفعل. فالضاربُ لا يحتاج في ضربه إلى مادَّةٍ، ولكنه يُحْدِثُهُ من كتم العَدَمِ.

ومن ههنا قلتُ: إن العالمَ بأسره فعلٌ للرَّبِّ سبحانه، كالمفعول المطلق لفاعله، فَيَحْدُثُ بلا مادةٍ. ولو فَهِمَهُ الفلاسفةُ الأغبياءُ لَمَا تَسَارَعُوا إلى القول بِقِدَمِها، ولكن المحرومون لم يَهْتَدُوا إلى الفرق بين المفعولين، فَجَعَلُوا الله سبحانه محتاجًا إلى المادة لِيُظْهِرَ فيها خلقَه وتصويرَه. كيف وإن المادَّةَ نفسها مخلوقةٌ له. ولنا فيه كلامٌ طويلٌ، بَسَطْنَاه في رسالتنا «في حدوث العالم»، وليس ههنا موضع بسطه.

وإنَّما المقصودُ ههنا بيانُ أن ابنَ الحَاجِبِ ذَهَبَ إلى أن السمواتِ والأرضَ مفعولٌ


(١) قلت: وهذا هو ذنب الحنفية في -باب الإيمان- حيث قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولما كان من مقولة السلف: الإيمان يزيد وينقص، وترك هؤلاء عنوانهم، لما سنح لهم فيه مصالح، أكبوا عليهم، وجعلوا يطعنونهم أيضًا، فإن كان ترك العنوانات مأثمة، ومجلبة للمطاعن، فلسنا متفردين فيه، ولكن البخاري أيضًا شاركنا فيه، فهلا فعلوا به فعالهم بنا؟ ولكنه كما قيل:
أصم عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد

<<  <  ج: ص:  >  >>