للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ففيه اختلافٌ لأصحابنا، فبعضُهم ذَهَبَ إلى أنها اسمٌ للقدر المشترك، وآخرون إلى أنها مباديء تلك الصفات.

قلتُ: وقد أَحْسَنَ المَاتُرِيدِيَّةُ حيث جَعَلُوها صفةً برأسها مستقلَّةً، فإنَّ القرآنَ يُشْعِرُ باستقلالها، فإنه سمَّى اللَّهَ تعالى مميتًا، ومحييًا. وإرجاعُ تلك كلِّها إلى القدرة والإِرادة بعيدٌ، فالأَوْلَى أن تُسَمَّى تلك أيضًا باسمٍ، وهو صفةُ التكوين.

بَقِيَ الأفعالُ الجزئيةُ المُسْنَدةُ إلى الله تعالى كالنزول، والاستواء، وأمثالهما، فاختلفوا فيها بأنها قائمةٌ بالباري تعالى، أو منفصلةٌ عنه، مع الاتفاق على حدوثها. فذهب الجمهورُ إلى أنها منفصلةٌ. وذَهَبَ الحافظُ بن تَيْمِيَة إلى كونها قائمةً بالباري تعالى، وأَنْكَرَ استحالةَ قيام الحوادث بالباري تعالى، وأصرَّ على أن كون الشيء محلاًّ للحوادث لا يُوجِبُ حدوثه. واسْتَبْشَعَهُ الآخرون، لأن قيامَ الحوادث به يَسْتَلْزِمُ كونه محلاًّ لها، وهذا يَسْتَتْبِعُ حدوثه، والعياذ بالله.

قلتُ: أما كون الباري عزَّ اسمه محلاًّ للحوادث، فأنكره هذا التعبير، غير أن السمعَ وَرَدَ بنسبتها إليه تعالى. ويرى المتكلِّمون كافةً إلى تلك الأفعالَ كلَّها مخلوقةٌ حادثةٌ. والحافظُ ابن تَيْمِيَة مع قوله بحدوثهما، لا يقولُ: إنها مخلوقةٌ، ففرَّق بين الحدوث والخلق. وإليه مال المصنِّفُ، فجعل الأفعالُ حادثةً قائمةً بالباري تعالى على ما يَلِيقُ بشأنه، غير مخلوقةٍ.

وأمَّا الثاني، فهو تأسيسٌ للجواب عمَّا أُورِدَ عليه في مسألة كلام الباري تعالى، وهذه هي المسألةُ التي ابْتُلِي بها البخاريُّ، وقاسى فيها المصائب. فترجم أوّلًا ترجمةً طويلةً جامعةً كالباب، ثم ترجم تراجمَ أخرى في هذا المعنى كالفصول له. كما كان فعل في كتاب الإِيمان حيث ترجم أوّلًا تَرجمةً مبسوطةً مفصَّلةً، ثم ترجم بعدها كالفصول لها، إلَّا أنه لم يُفْصِحْ بالجواب، ولكنَّه عَرَضَ إليه بالإِيماءات والإِشارات.

فاعلم أنه لم يَذْهَبْ أحدٌ من أئمة الدين إلى أن القرآنَ مخلوقٌ، وامْتَنَعُوا بإِطلاق المخلوق عليه. كيف وأنه صفةٌ للرَّبِّ، والصفاتُ ليست مخلوقةً، وإلَّا كانت حادثةً، وإذ ليست، فليست. ولمَّا جاء البخاريُّ قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. ولم يَكُنْ البخاريُّ يُحِبُّ أن يُفْشِيَه بين الناس، إلَّا أن محمد بن يحيى الذُّهْلي شيخ مسلم لم يَتْرُكْهُ، واضْطَرَّه إلى التكلُّم به، فكرَّر عليه بالمسائل. فلمَّا لم يَجِدْ المصنِّفُ بُدًّا إلَّا من إفصاح مراده، قال للسائلين عنه: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. فلم يُدْرِكِ الناسُ مرادَه، فصاحوا عليه، ورَمَوْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>