الماء الذي يُغْسَلُ به شعر الإِنسان ... إلخ، وقد قدَّمنا أنَّ المقصودَ هناك كان ذكر مسألة الأسار، وكان ذكر الماء تَبعًا لكونه محلًا لوقوع هذه الأشياء. وأمَّا المقصود من هذه الترجمة فهو ذكر مسألة المياه أصالةً. وذكر الأنجاس فيها، لكونها واقعةً فيها، فَبَيْنَ الحال والمحل رَبْطٌ يُوجِبُ ذكر أحدهما عند ذكر الآخر. وهكذا فَعَلُوه في كُتُب الفقه، فيذكرون الأنجاس في باب المياه، ثم يَقْعِدُون لها فصلًا أيضًا، وذلك لَما نَبَّهُنَاك عليه آنفًا.
قوله:(وقال الزُّهْرِيّ: لا بَأْسَ بالماء ما لم يُغِيِّرْهُ طَعْمٌ أو رَيحٌ أو لَونٌ)، هذا صريحٌ في أنه دَخَلَ في مسألة المياه، ثم في تلك العبارة الطَّعْمُ وغيره: صفاتٌ للأشياء الساقطة، وفي المشهورة: وجعلوها صفاتٍ للماء، فقالوا:«ما لم يغيِّر طعمه، أو ريحه، أو لونه».
قوله:(قال حَمَّاد: لا بأس بريش الميّتَة)، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الأجزاء التي لا تتداخلها الحياة، كعظم الميتة، وقُرُونِها، وَشَعْرِها، وَوَبرِها.
قوله: «قال الزُّهْرِي في عظام الموتى، نحو الفيل) ... إلخ، انتقل فيه إلى ملحقات الباب، والفيل نَجِسُ العين عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو ما يكون حرامًا بجميع أجزائه، ولا يكون شيءٌ منه مستثنىً ممَّا يُسْتَثْنَى من سائر الحيوانات.
قوله:(وقال ابن سِيرِين وإبراهيمُ: لا بَأْسَ بتجارة العَاجِ)، إنما ذكره لمجرد التَّنَاسُب، وإلا فأصل مسألة الطهارة والنجاسة تَتعلَّق من اللحم، ثم تَسْرِي إلى السؤر، فإِنَّ السؤر يَتْبَعُ اللحم. أمَّا المُلابَسة به، والمعاملة معه، فذلك من المتعلَّقات البعيدة، بقيت التجارة، فإِنها تُبْنَى على المِلْك، دون الطهارة والنجاسة.
ثم الشيء إذا تنجَّس، هل يَنْقَطِعُ منه الانتفاع أصلًا أم لا؟ فقال (١) الحنفية رحمهم الله تعالى في دُهْنٍ سقطت فيه فأرة: أن بَيْعَه والاسْتِصْبَاحَ به كله جائزٌ، غير أنه لا يُسْتَصْبَحُ به في المساجد، فدلّ على جواز الانتفاع في الجملة. وأمَّا في شَحْم الميتة، فَحَجَرُوا عنه الانتفاع مطلقًا، حتى لم يجَوِّزُوا تَطْلِيَة السُّفُن أيضًا. فلمّا لم يكن جَوَاز الانتفاع دليلًا على الطهارة ضابطة مطردة، لم يكن في جَوَاز بيع أجزاء الميتة دليلٌ على طهارتها.
أما مسألة المياه، ففيها خمسة عشر مذهبًا للعلماء، ونذكر منها أربعة، وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى في «حاشية الموطأ» في نقل مذهب الظاهرية.
وقد عَلِمْتَ سابقًا أنَّ مالكًا رحمه الله تعالى اعتبر التغيُّر وعدمه، وللمالكية رحمهم الله تعالى ثلاثة أقوال كما في «مختصر ابن الحاجب»، وأشهرها: أن العِبْرَة بالتغيُّر وعدمه، فلو سَقَطَتْ قَطْرَةٌ من البول في قَدَح من الماء لم يَتَنَجَّسْ. وذَهَبَ أحمد رحمه الله تعالى في روايةٍ غير مشهورةٍ عنه، كما في «فتاوى ابن تَيْمِيَّة» رحمه الله تعالى إلى الفَرْق بين النجاسة الجامدة والمائعة، فالجامدة إذًا وَقَعَتْ في الماء وأُخْرَجَتْ من ساعته، لم تُنْجِّسْ، بخلاف المائعة. أمَّا
(١) قلت: روى الحافظ في الأطعمة عن ابن عمر في فأرة. وقعت في زيت، قال: "استصبحوا وادهنوا به أدمكم". وعند البيهقي عنه: "إن كان السمن مائعًا، انتفعوا به، ولا تأكلوه".