إذا غيَّرت الماء، وظَهَرَ فيه أثرها، فذلك ممَّا لا خِلافَ في نجَاسته، سواء كانت جامدةً أو مائعةً. أمّا مذهب الإِمام أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، فَغَنِيٌّ عن البَيَان.
إِذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم: أن الشارحين عامةً ذَهَبُوا إلى أن البخاري رحمه الله تعالى اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى، وذلك لأنه أَخْرَجَ حديث الفأرة، وفيه:«أَلْقُوها وما حولها، وكُلُوا سَمْنَكم»، فدل على أنَّ الباقي طاهرٌ، ولأثر الزُّهْرِي الذي مرَّ في ترجمة الباب.
قلتُ: ولا دليلَ فيه على ما قالوا، والظاهر عندي: أنَّه اختار الروايةَ الغيرَ المشهورة عن أحمد رحمه الله تعالى التي ذَكَرْنَاها، وذلك لأنه أخرج أولًا حديث الفأرة، وهي نجاسةٌ جامدةٌ، وأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلّم فيه بأكل السَّمْنِ بعد إِخراجها، وطَرْح ما حولها. ثم بوَّب بالبول، وهو نجاسةٌ مائعةٌ، وأَخْرَج فيه حديثًا يَدُلُّ على النجاسة، فَخَرَج أن حكم المائعة، على خلاف حكم الجامدة، فَثَبَتَ الجزءان من الحديث. وتلك الرواية لَمَّا لم تَكُن مشهورةً فيما بين القوم، لم يَنْتَقِل إليها أذهانهم، فَحَمَلُوا كلام البخاري رحمه لله تعالى على مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولعلَّ أمر الطَّرْح حينئذٍ لا يكون عنده إلا على الاستحباب.
فالكلام ههنا في أربع مواضعٍ: الأول في مختار البخاري رحمه الله تعالى عندي، وإيضاحه. والثاني في مختاره عند الشارحين، وإيضاحه. والثالث في الجواب عمَّا تمسَّكَ به الشَّارِحُون من كلامه، والرابع في الجواب عن استدلال البخاري، سواء كان مختاره ما نَسَبَهُ إليه الشارحون، أو ما حقَّقْتهُ.
أَمّا الأوَّل فقد عَلِمْتَهُ آنفًا.
أمّا الثاني، فقد عَلِمْتَ: أن البخاري رحمه الله تعالى اختار عندهم مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولعلّه حملهم على ذلك أمران: الأول أنه بَوَّبَ في المجلد الثاني وقال: باب إذا وقعت الفأرةُ في السَّمْن الجامد والذائب ... إلخ، فعمَّم بالنوعين، والثاني أنه علَّل الزيادة التي رُوِيَتْ في هذا الحديث، وهي:«فإن كان مائعًا، فلا تَقْرَبُوه». قال الترمذي بعد إخراج هذه الزيادة: سَمِعْتُ محمد بن إسماعيل يقول: حديث مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا خَطَأْ. فدلّ الأمران على أن حكمَ الجامد والمائعَ عنده سواءٌ خلافًا للجمهور.
وهذا إنما يَصِحُّ على مذهب مالك رحمه الله تعالى فقط، فإِنَّ العِبْرَةَ عنده بالتغيُّر وعدمه، والجامدُ والمائعُ في ذلك سواءٌ، بخلاف الحنفية والشافعية رحمهما الله تعالى، فإِن القليلَ المائعَ عندهم يَتَنَجَّسُ بوُقُوع النجاسة مطلقًا، لعدم إمكان خُلُوصها منه، بخلاف الجامد، فإِنك لا تَطْرَحُ من الذائب شيئًا، إلا ويَخْلُفُه غيره قبل طَرْحِك منه.
وبالجملة فرَّق الجمهور بين الجَامِد والمَائِع لِمَا قام عندهم من الدليل، بخلاف مالك رحمه الله تعالى، فإِنه مرّ على أصله، فلمّا سوَّى البخاري بين حكم الجامد والذائب في حكم الطهارة، كما صَرَّح به في المجلد الثاني، وعلَّلَ الزيادة التي تُبْنَى على الفرق بينهما، تَحَدَّسَ للشارحين أنه اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى، وهذا إيضاحُ قولهم.