للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أمّا الثالث، وهو الجواب عنه، فأقول إن تعميمَه في الترجمة الثانية، لا يَنْحَصِر فيما زَعَمُوه، وذلك لأنه يمكن أن يكون أَتَى بِلَفْظِ الجَامِد تَبَعًا للحديث، وأضاف عليه الذَّائِب من قِبَلِهِ توجيهًا للناظر إلى طلب حكمه، فإِنك تَعْلَمُ أن كتابه يحتوي على مسائل الفقه أيضًا، فلا دليلَ فيه على تَسْوِيَة حكمها عنده. وكذلك جواب الزُّهْرِي لا يتعيَّن أن يكونَ للجامد والذائب كليهما، وإن وَقَعَ السؤال عنهما، بل يُمْكِن أن يكونَ أَجَابَ عن الجَامِد لأجل وُرُود الحديث فيه؛ وسَكَتَ عن حكم الذائب.

وأمّا (١) ما شَرَحَهُ الحافظ رحمه الله تعالى، فلا أَرْضَى به، وكذا لا دليلَ في إعلاله الزيادة على ما قالوا، فإِنه يُمْكِن أن يكونَ لحالها في نفسها، لا لحال المسألة، بل هو الظاهر. وتَحَصَّل ممَّا ذكرنا أن البخاري لم يَخْتَرْ مذهب مالك رحمه الله تعالى عندي، بل اختار روايةً غير مشهورةٍ عن أحمد رحمه الله تعالى، وهي الفَرْق بين النجاسة الجامدة والمائعة.

أمّا الجواب عنه، هو الموضع الرابع، فبأن الحديث الذي أَخْرَجه يَدُلُّ على أنه في الجامد، وليس في الذائب، لِمَا قال ابن العربي: أن السَّمْنَ لو كان مائعًا، لم يكن له حولٌ لأنه لو نُقِلَ من أي جانب مهما نُقِل لخَلَفَه غيره في الحال، فَيَصِيرُ هو أيضًا ممَّا حولها، فيحتاج إلى إلقائه كلِّه، فليس في الحديث دليلٌ على التَّسْوِية بين حكم الجامد والمائع. ونُقِلَ أن (٢) عبد الله بن أحمد سأل أباه أحمد رحمه الله تعالى: أن الطرح إِنما يُمْكِنُ في الجامد دون المائع؟ فَغَضِبَ عليه أحمد رحمه الله تعالى، وأجاب: أنه تَطْرَحُ حَثْية منه.

قلتُ: وهذا لا يُتَصَوَّرُ إِلا إذا كان الإِناء وَسِيعًا، والشيء مائعًا ثخينًا، أمَّا إذا كان الإِناء عميقًا كالجَرِّ، والشيء رقيقًا لا يُتَصَوَّرُ فيه ما قال. ولعلَّه غَضِبَ عليه، لأنه ضَاقَ عليه جوابه. ثم إن عبد الله هذا حافظٌ، ومن أجله كُنِّيَ أحمد بأبي عبد الله، وله أخٌ واسمه صالح.

وبالجملة: أن الإِلقاء لمَّا لم يُتَصَوَّر إِلا في الجامد، تعيَّن ما لا يُتَصَوَّر فيه الإِلقاء، وهو الذائب نَجِسٌ. فحديث البخاري وإن لم يَدُل عليه بمَنْطُوقه، لكنه بمَفْهومه دليلٌ على الفرق بين حكم الجامد والذائب. ثم مَفْهُوم حديثه، قد جاء مَنْطُوقًا في حديث عند أبي داود عن أبي هُرَيْرَةَ، والنَّسائي عن مَيْمُونَة، وحينئذٍ مَفْهُومه مؤيَّدًا بِمَنْطُوقٍ صريح الحديث.

بَقِيَ إعلاله، فالجواب عنه أنه صحَّحها إسحاق بن رَاهُويه، والذُّهْلي في «الزهريات» كما في الفتح. فظهر مما قُلْنَا: أنه لا دليلَ عنده على التَّسْوية بين حكم الجامد والذائب من نصِّ


(١) قُلْتُ: لمَّا سُئِلَ الزُّهْرِي عن الفأرة تَمُوت في السَّمْن جَامِدًا، أو غير جَامِد، أجاب كما في الأطعمة: أنه بلغنا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر لفأرة ماتت في السَّمْن، فأمر بما قَرب منها فَطُرِح، ثم أَكل". قال الحافظ رضي الله عنه: وهذا ظاهرٌ في أن الزُّهْرِي لا يفرِّق بين الجامد وغيره، انتهى مُخْتَصَرًا.
(٢) قلتُ: أَخْرَج الحافظ عن ابن عباس رضي عنه: "سئِل عن فارةٍ ماتت في السَّمْن، قال: تُؤخَذُ الفأرة وما حولها، فقلتُ: إن أثرها كان في السَّمْن كلِّه، قال: إنما كان وهي حيَّة، وإنما ماتت حيث وُجِدَت"، ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد من وجهٍ آخر، وقال فيه عن جَرٍّ فيه زيتٌ وقع فيه جُرَذٌ، وفيه: "أَلَيس جال في الجَرِّ كلِّه، قال: إنما جَالَ وفيه الروح، ثم استقرت حيث ماتت".

<<  <  ج: ص:  >  >>