للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحديث، بل حديث البخاري بِمَفْهُومه، وحديث أبي داود والنَّسَائي بِمَنْطُوقه صريحٌ في التَّفْرِقَة بينهما، وهذا هو مذهب الجمهور.

ثم نَقَلَ الحافظ في كتاب الأطعمة تحديد ما يُلْقَى، فَرَوى عن عطاء بن يَسَار أنه قَدْر الكفّ.

قلت: لو كان المصنِّف رحمه الله تعالى اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى لكان لهذا النقل فائدةٌ، أما إذا علمت أنه لم يذهب إليه فلا طائل تحته.

نعم ههنا شيء، لعله يختلج في صدرك، وهو أنَّ الأحاديث في نجاسةِ الماء بوقوع النجاسات كلها في المائعات غير حديث الفأرة، فذلك يؤيد رواية أحمد رحمه الله تعالى، أعني الفرق بين المائعة والجامدة. فحديث وُلوغ الكلب والنهي عن البول في الماء الدائم، وحديث المستيقظ كلها في النجاسة المائعة.

قلت: تلك الأحاديث إنما جاءت على الوقائع في الخارج، فإِنه لا يتفقُ في الماء الدائم إلا البول لا سيما لأَعراب العرب، فإِنهم لم يكونوا يحترزون عنه، بخلاف الغائط، فإِنه لا أحد يفعله بل يتقذره بطبعه، فلاة حاجة إلى النهي عنه. وكذا لا يتفق في البيوت إلا ولوغ الكلب والهرة، أو وقوع الفَأْرة، وفي الفَلَواتِ إلا ولوغ السِّباع، وكذا من عادات العامة غَسْل الأيدي والوجه بعد الاستيقاظ، ولا بد له من إلقاء اليد، لأن أوانِيهم لم تكن ذوات آذان، فأخذت الأحاديث تلك الوقائع كلها لهذا لا أنها جاءت بما تُنبىء عنه روايةٌ شاذةٌ عن أحمد رحمه الله تعالى.

واعلم: أنه لم يصنف أحدٌ، كتابًا في مختارات الإِمام البخاري كما صنفوا في مختارات سائر الأئمة، فالنظر فيها يدور على تراجمه فَيَجُرَّهَا كلٌّ من أهل المذاهب إلى جانبه ويفسِّرُها حسب مسائله، مع أنَّ البخاري عندي سَلَك مَسْلَك الاجتهاد ولم يقلِّد أحدًا في كتابه، بل حَكَم بما حكم به فَهْمُه، ولذا أَوفى حقَّ تراجمه أولًا، ثم انظر أنه هل وافق أحدًا أَم لا؟ ولمَّا لم يدوِّنْ فِقْهَهُ ساغ لي أيضًا أن أعزو إليه ما أفهم من تراجمه، ولذا قد أخالف الشارحين في مختاره كما فعلت في تلك الترجمة.

وبعد فليس هذا، إلا ظن أو احتمال، والعلم عند الله العلام، فإن المصنِّف رحمه الله تعالى لو أفصح بِمُرَاده لحكمنا بالجَزْم، ألا أنه كثيرًا ما يذكر مادة الجواب ثم لا يُفْصِحُ به، فيتردد النظر في شَرْح جوابه وذلك غير قليل في كتابه، ومثل ذلك له مقاصدُ أخرى تَعْلَمُها في مواضعها.

قوله: (اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم) وجه تَنَاسُبه مع الباب أن الاعتبار للمعنى دون الصورة، كما أن دمَ الشهيد دمٌ صورةً إلا أنه مِسْكٌ معنىً. فكذلك العبرة في الماء للمعنى وهو التغيُّر وعدمه، وكأنه دفع ما يَرِد: أن النجاسة إذا وقعت في الماء فكيف يبقى الماء طاهرًا؟ فأجاب بأن الاعتبار دون الصورة، فإذا وقعت في الماء ولم يتغير الماء فقد بقي على معناه وهو المعتبر في الباب، كما اعتُبِر في الدم. وقد يقال: إِنَّه يشيرُ إلى أنَّ العِبرة للغالب، فإذا كان ريحُ المسك

<<  <  ج: ص:  >  >>