للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ولذا أقول: إن الإِمام إن كان شافعيًا وتكلَّم ناسيًا، ثم مضى في صلاته لعدم كونه ناقضًا عنده، ينبغي أن يَفْسُدَ صلاة المقتدي الحنفي لأن بين المسألتين فرقًا، فإِن مسألة التكلم قليلةُ الوقوع جدًا بل ليست فيه إلا واقعة ذِي اليدين، فإِن تَمَّتْ على نظر الحنفية ينهدم مراد الشافعية عن أصله، وليس في أيديهم غيرها شيء، بخلاف مسألة النواقض، فإِنها كثيرة الوقوع من الصدر الأول، وما تكون كذلك لا يمكن فيها فصل الأمر أبدًا.

ثم الذين قالوا بالجواز عند الاختلاف في الفروع افترقوا فرقتين:

فقال قائل منهم: إنَّ العبرةَ لرأي الإِمام، فإِن تحقق ناقض على مذهبه وانتقض وضوؤه لا يجوز الاقتداء به، وإلا جاز، ولا عبرة بحال المقتدي، وإليه ذهب الجصَّاص، وهو الذي اختاره لتوارث السلف، واقتداءِ أحدهم بالآخر بلا نكير مع كونهم مختلفين في الفروع، وإنما كانوا يمشون على تحقيقاتهم إذا صلَّوا في بيوتهم، أما إذا بلغوا في المسجد فكانوا يقتدون بلا تقدم وتأخر، ولن يُنْقَل عن إمامنا أنه سأل عن حال الإِمام في المسجد الحرام مع أَنَّه حَجَّ مرارًا.

وقال آخرون: إن العبرة لرأي المقتدي، والقول الثالث فيه لنوح أفندي وهو فاضل ذكي متيقِّظ بعد الشيخ ابن الهُمَام، وله حاشية مبسوطة على «الدر المختار»، أودع فيها مباحث لطيفة، ويُعلم منها أنه رجل محقق، واختار أن الاقتداء إنما يصح عند تلاقي الرأيين: أي المقتدي والإِمام. وإلا لا، وهذا القول من جانبه وليس عن السلف. وهناك صورة أخرى وهي أن الإِمام صلى وكان على غير وضوء على رأيه وعلى وضوء على رأي المقتدي، مثلًا: كان شافعيًا فمسَّ امرأة ثم أمَّ الناس، فهذا على وضوءٍ عند الحنفية، ومحدثٌ على مذهبه، فيجري فيه الاختلاف المذكور أيضًا.

قال الشيخ ابن الهُمام: إن شيخه سراج الدين تلميذ صاحب الهداية كان يختار مذهب الجصَّاص، وأنكر مرة أن يكون فسادُ الصلاة فيه مرويًا عن المتقدمين، وإنما أوجده المتأخرون، فَذكَّرْتُه بمسألة «الجامع الصغير» في الجماعة الذين تحرَّوا في الليلة المظلمة، وصلَّى كلٌّ إلى جهة، مقتدين بإِمامهم، أنَّ صلاةَ مَن عَلِم إمامه على خطأ فاسدة، لاعتقاده إمامَه على خطأ، فإنها تدل على أن الاعتبار لرأي المقتدي عند السلف أيضًا، وليس إيجادًا من المتأخرين فقط، فلم يجبه شيخه.

قلتُ: الفرق ظاهر ونظير الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، وكذا سكوت شيخه في غير محله، فإِنَّ معاملةَ القِبلة قطعية يمكن فصلها بالرجوع إلى الحِسّ بخلاف النواقض، فإِنه لا سبيل فيها إلى الفصل بعد اختلاف السلف فيها اختلافًا كثيرًا، فلو علم المقتدي إمامه على خطأ في مسألة التحرِّي ينبغي أن لا تصح صلاته، بخلاف الاجتهاديات التي لا تزال الأنظار تدور فيها إلى الأبد، ووجه الفساد في المسألة المذكورة ليس ما فهمه الشيخ من مخالفة اعتقاده لإِمامه، بل هو ترك المتابعة له، وهي من الواجبات.

وكان مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى يذهب إلى مذهب الجصَّاص ويستعين بمسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ، فإِنه ينفُذُ ظاهرًا أو باطنًا مع شرائطها المذكورة في الفقه. وقد

<<  <  ج: ص:  >  >>