وهذه الترجمة لا تستقيم على مذهب أحد، إلا على مذهب مَن اختار عدم التوقيت في الحيض، كمالك رحمه الله تعالى. أما الشافعية رحمهم الله فأقلُّ الحيض عندهم يوم وليلة، والطُّهر أقلُّه خمسةَ عشرَ يومًا إجماعًا. والعِدَّة عندهم بالأَطهار، فيحتاج إلى خمسةٍ وأربعين يومًا للأَطهار، ويومين للحيضتين، فلا تمضي عدتُها إلا في سبع وأربعين يومًا عندهم. نعم لو فرضنا أنه طلقها في آخر الطُّهْر، فيجب عليها أن تتربص طُهرين آخرَين، وثلاث حِيَض، فلا تمضي عِدَّتُها إلا بثلاثٍ وثلاثين يومًا.
وأما الحنفية فأقلُّه عندهم ثلاثةُ أيام، فلا تمضي عِدّتُها إلا بتسعةٍ وثلاثين يومًا: تسعة أيام لحيَضها، وشهر لطُهرها.
فالحاصل: أن فَتوى عليَ وشُرَيح رضي الله عنهما لا تستقيم على المذهبين، وَلْيُمْعِنِ النظرَ فيه كلُّ مَن كانت له عينان، لأنه مؤثر في مسألة أقلّ الحيض وأكثره جدًا. وجمع الحافظ رحمه الله تعالى طُرُقه، وأخرج لمذهبه مخرَجًا، فأتى بروايةٍ من الدارِمي وفيها:«خمسًا وثلاثين» يومًا بدل الشهر، وادَّعى أنَّ الراوي حذف الكسر فاستراح منه. قلت: وإذا تُسومح في حَذْف الخمس فليكن هَيّنًا لَيِّنًا في حقّ الأربعة أيضًا، وليقل: إن الراوي حذف تسعة أيام ولا عجب.
ثم السَّرَخْسي أجاب عنه بوجه آخر، وقال: إنَّه مِن باب التعليق بالمُحال، لأن حرف «إن» يستعمل في المحالات أيضًا، وحينئذ حاصله أنها تُصَدَّقُ إن جاءت ببينة مِن بِطانة أهلها، ولكنه مُحال، لأن القضاة كانوا يعلمون أن مُضي العدة في تلك المدة غير ممكن. وإذا كان الزمانُ زمانَ التدين فلا يشهد لها أحدٌ من بطانة أهلها، فلا يمكن أن تُصَدَّق في هذه المدة وهو كما ترى، على أن في الفقه أنها لا تُصَدَّق عند الخصومة إلا بالشهرين، كذا في «الدر المختار» من باب الرجعة. واختلفوا في تخريجه، فقيل: شهر للحِيَض الثلاث على أن أكثره عشرة، وشهر للطُّهرين. وقيل: بل يُؤخذ للحِيَض الوسط، لا أقلَّ ولا أكثر، وهو خمسة أيام، فيكون نصف الشهر للحيض، والباقي للطهر.
ووجهه: أنَّ المرأةَ إذا ادعت بانقضاء عدتها وأنكره الزوج، وجب رعاية الطرفين، فلم نأخذ بالأقل وأخذنا بالمتيقَّن. ولأن العدة يدخل فيها القضاء، ولا سيما عند الخصومة، وتتعلق بها الأحكام، فإنها تَنْكِح بعدَها زوجًا آخر، وربما يُحتمل أن تكون كَذَبَتْ في أخذ طَمْثها بالأقل، وتكرار الطَّمْث في شهر أيضًا نادر، فلا يحمل القاضي عليه، فلا بد أن لا تُصَدَّق بأقل من شهرين لتنقضيَ عدتها بيقين. وهكذا فعله المالكية رحمهم الله تعالى بعينه، فإن الحيض وإن أمكن عندهم ساعةً لكنهم قدَّرُوه في باب العدة احتياطًا، فما دامت المعاملة كانت في بيتها وما كان أمكن أحكام الصلاة والصيام فَوَّضوه إلى رأيها، وإذا تعلق بها حقُّ العبادة عينوه، لعين ما قلنا.