قوله:(ما هي بأَوَّلِ بَرَكَتِكُم يا آلَ أبي بكر) بل هي مسبوقة بغيرها. وفي رواية:«فواللهِ ما نزل بكِ أمرٌ تَكْرَهِينه إلا جعل اللهُ للمسلمين فيه خيرًا» وفي النكاح: «إلا جعل اللهُ لك منه مَخْرجًا وجعل للمسلمين فيه بركة». وهذا يُشْعِر بأنَّ هذه القصة كانت بعد قصة الإفْك. فإن فُقدان القِلادة، والتماسَ الناس، والبركةَ لهم، والمَخْرجَ لها كلُّها في قصة الإفْك، وإليها يتبادر الذهن لشهرتها. فإن جعلناها قصةً في غزوة بني المُصُطَلِق لم يلتئم معه هذا القول، لأن قصة الإفك فيها.
ولقائل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يكون هذا إشارة إلى قصةٍ غيرِ الإفْك؟ ولكنه ليست هناك قصة أخرى اشتهرت بالبركة للمسلمين، والمخرج لها غيرَ قِصَّة الإفْك. فقيل: إن العقد انقطع في تلك الغزوة مرتين. ففي قصة الإفْك: أنها ذَهَبَتْ لِطَلَبِها وتأخرت عنهم حتى أَنهم رحَّلُوا الهَوْدج، وكُنَّ النساء إذ ذاك خفافًا، فظنوا أنها فيه، فارتحلوا وارتحل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ثم جاء صفوانُ ورأى سوادَ إنسان، وجاء بها إلى القافلة حين ارتفع النهار وشاع ما شاع. وفي هذه القصة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بعث الناس لِطَلَبِها، وكان رأسهم أُسَيد بن حُضَير، فلم يجدوا، ثم رجعوا ووجدوا العِقْد تحت البعير، ثم ارتحلوا وارتحل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وعائشةُ رضي الله عنها معه. فإذا كان بين القصتين مغايرة، لا بد لنا أن نقول بتعدد الواقعتين.
قلت: وهو كذلك، إلا أنه لا دليل فيه أنهما كانتا في سفر واحد، والذي يظهر أَنَّهما كانتا في سفرين لأمرين:
الأول: لِمَا أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى عن الطبراني من طريق عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عِقْدي ما كان، وقال أهل الإفْك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عِقْدي حتى حُبِس الناسُ على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنيةُ في كلِّ سفرٍ تكونين عناءً وبلاءً على الناس، فأنزل الله عزو وجل الرخصة في التيمم. فقال: إنك لَمباركةٌ ثلاثًا. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال. قلت: ولكنه يُعَدّ في طبقة الحفاظ فالرواية صحيحة عندي.
والثاني: لما أخرجه الطحاوي عن ابن لهِيعة، عن أبي الأسود حدثه: أنَّه سَمِعَ عُروة يخبره عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَقْبَلْنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة له، حتى إذا كنا بالمُعَرَّسِ - قريبًا من المدينة - نَعَسْتُ من الليل، وكانت عليَّ قِلادةٌ، تُدْعَى السِّمْطَ تبلغ السّرَّةَ، فجعلت أَنْعس فخرجَتْ من عُنُقي، فلما نزلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرّت قِلادتي من عُنُقي. فقال: أيها الناسُ، إنَّ أُمَّكم قد ضَلَّت قِلادتَها فابتغوها، فابتغاها الناس ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرَتْهُمُ الصلاةُ ووجدوا القِلادةَ ولم يقدروا على ماء، فمنهم مَن تيمم إلى الكفِّ، ومنهم مَنْ تيمم إلى المَنْكِب، وبعضهم على جسده. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت آيةُ التيمم.
فهذا أيضًا يدلُّ على أنَّ قصة فُقْدان القِلادة وقعت مرتين. وفي إسناده ابن لَهِيعة، ولكنَّ