فالنقضُ النقض، والجوابُ الجواب. وإنْ شئت تقرير كلامِهم على النَّحْوِ الذي يقتضي مَرِامِهِم فَقُل: إنَّ الحُكْم قَدْ يَرِد باعتبارِ الجِنْس مع عَدَمِ تحققِهِ في بعض الأنواع، وهذا حيث يَتَأَتَّى التشكيكُ في مراتبِ الشيءِ كَضَرْبِ الدُّفِّ يُسوَّغ فيه التشكيك، ويُمْكِن أَنْ يتنوع إلى مندوب ومكروه ومباح، ولذا أَغْمَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلّم فيما كانت الجاريتان تُغَنِّيان عنده وتدفِّفَان، ولم يزل متغش وجهه بثوب حتى قالتا؟ «وفينا نبي يَعْلَمُ ما في غد» فكشف عن وجهه وقال: «قولي بالذي كنت تقولين»، وإنَّما نهاهنَّ أَنْ يقلن هذا لأنَّهنَّ قُلن قولا باطلا، فلم يَمضْ عنه ساعة، وَمَنَع عنه على فورِهِ بخلاف الدُّف. وهكذا في واقعة أخرى مثلها حتى جاءه عمر رضي الله عنه، وَرَأَيْنَه ألقينَهُ على الأرضِ وقعدن فحينئذٍ قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «إن الشيطان يفر من عمر».
وأشكل على الناس قوله، فإنَّ التدفف لو كان مِنَ الشيطان كما يدل عليه قوله هذا كيف أغمض عنه، ولو كان مباحًا كما يدل عليه إغماضه كيف جعله مِنْ فعل الشيطان آخرًا.
وحله: أنَّ الشيءَ قد يكون قدْرٌ منه حلالا ويَنْجَرُّ إلى الحرام بالإفراط والتفريط فما كان حَرَامًا باعتبار أغلب الأَحْوَال يَحْكم عليه الشرع بكونه من الشيطان باعتبار الجنس وحالِهِ الأغلب، وإن لم يتحقق بحسب خصوص المقام فالتَّدَفُّفُ وإنْ كان حلالا في بعض الأحوالِ كهذا التدفف الذي ضُرِبَ به بين يَديِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لأَجْلِ معنىً صحيح مع فُقْدِان معنىً مُحَرَّم، لكنه لما كان حرامًا في أغلب الأحوال لانعِدَام هذه الاحتفافات نَسَبَهُ إلى الشيطان.
وحاصل صنيعه تقرير الإجازة مع إظهار الكراهة، وهو الذي يناسب منصب النبوة، فإنَّه لو نَهَى عنه مطلقًا لانعدمت الإباحة وصارَ حرامًا ولم تَبْقَ مرتبة منه جائزة ولو لم يُكْرَه ولم يُظْهِرِ الكراهة أيضًا لجاز بدون كراهة أيضًا، فكل ما كانت مباحة في نفسها باعتبار بعض الشرائط ومكروهة باعتبار انجرارِهَا ءى الحرام في الأَغْلَبِ يَرِد فيها النَّهي باعتبار الجِنْسِ مع الإِغْمَاضِ عنها عند خُلُوِّها عن الإفراط والتفريط، وهذا معنى قولهم: إنَّ الشيء قد يكون مُوجِبَا للنار وسببًا له ثُمَّ يَتُخَلَّف عنه مسبِبَهُ، وهذا حيث يكونُ الحُكْمُ باعتبارِ الجنس يكفي لصدق تحققه في فرد ما وإنْ لم يَتَحقَّق في خصوص هذا المورد كما في «مستدرك الحاكم»: «أن رجلا جاءه فسأله مالا فأعطاه حتى فعل ثلاث مِرَار يُعْطِيه كلَّ مَرَّة فلَمَّا ولَّى قال: إنَّ السؤالَ جمرةٌ فمن شاء استقلَّ ومَنْ شاء استَكْثَر قال رجلٌ: يا رسول الله فَلِمَ أعطيتَهُ؟ قال: إنَّ الناس لَيْسئَلِونَنِي وَيَأْبَى الله أَنْ أكونَ بخيلا» أو كما قال.
قلتُ: شرحه عندي أنَّ الشؤالَ شأنُهُ أن جمرة من النَّار سواء ترتب عليه النار أوْ لا، فهذا حكم جنسي يكفي لصدْقِ تحقُقِه في الجنس، وإنْ لم يَتْقق في خصوص هذا السائل مثلا. ومَرَّ التُّوْربِشْتِي الحنفي في «عقائده» على الأحاديث التي يكون فيها الوعيد بالنار على المعصية وَقَرَّرٍ مرادَها بما يَقْرُب من هذا التحقيق.
وحاصله: أنَّ تلك المعاصي أسبابُ النَّارِ ولا يَلْزَم من ارتكابِ الأسبابِ ترتب مسبِبَاتِهَا، فإِنَّ ترتب المسبِبَات يَتَوقَّف على أمورٍ أخرى من ارتفاعِ الموانِع، ووجود الشرائطِ، وربما يكون مَنْوِيًا. ثم إنَّ الشرع قَدْ يَحْكم بالنَّار على أمر حسي فما البُعد فيما حَكَم بها على سببٍ من