الأقوى حديثًا. واستدل الشافعية رحمهم الله بحديث الباب، وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمام رحمه الله وقال: إنَّ مثنى معدول مِنَ اثنين فصارَ بالتكرار أربعًا وهو مذهب الحنفية.
قلتُ: قد صرَّح الزَّمْخَشَري في «الفائِق» أن مَثْنَى ههنا مجرد عن معنى التَّكْرَار ومعناه اثنين فقط، ولذا احتيج إلى تَكْرِيره، على أنَّ ما ذكره الشيخ وإنْ كان نافعًا في مسألةِ التَّطوعِ لكنَّه يضرنا في مسألة الوتْرِ جدًا، وغفل عنه الشيخ رحمه الله وهو أَنَّ صلاةَ الليل إذا كانت أربعًا فبإيتارها بواحدة يحصل الوتر خمس ركعات، بخلاف ما إذا كانت مَثنى فإنها بعد الإِيتار تَحْصُل ثلاثَ رَكعات، وهي ركعات الوِتْر عندنا، ولعلَّ الشيخ زعم أنَّ الحديثَ هذا القَدْر فقط «صلاةُ الليل مَثْنَى مثنى»، وهكذا رَواه بعض الرواة أيضًا كما روى الآخرون القِطْعَة الأخيرة فقط:«الوتر ركعة من آخر الليل»، فَأَوْهَم أنَّهما حديثان مستقلان، فَحَمَل الشيخُ القِطعة الأُوْلى على مذهبه في التَّطوع، وحَمَل الشافعيةُ رحمهم الله تعالى الثانيةَ على مَذْهبهم في الوِتْرِ مع أنَّ الحديثَ واحدٌ فَصَلَهُ بعض منهم، وهاتان قِطْعتان مختصرتان من المُطَوَّل لا أَنَّهما حديثان، فبناء المسألتين يَنْبَغِي أَنْ يكونَ على المُطوَّل على أنَّه سئل عنه ابن عمر رضي الله عنه عند مُسْلِم ما مَثْنَى؟ فَفَسَّرَه أَنْ تُسَلِّم في كلِّ رَكعتين.
فالجواب: ما ذكره ابنُ دقيق العيد أَنَّ الجمهور وإنْ حَمَلَهُ على بيان الأفضل، لكنَّه يَحْتَمِل أَنْ يكون للإِرشاد إلى الأخف، إذِ السَّلام بين كلِّ رَكتين أَخفُّ على المُصلِّي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الرَّاحة غالبًا، وقضاءِ ما يَعْرِض من أمرهم.
قلتُ: وما أَدَّاه ابنُ دقيق العيد احتمالا هو المراد عندي، وحاصله: أَنَّ للمصلِّي حالان.
الأول: أَنْ تكونَ لَهُ وظيفةٌ راتبةٌ من ابتداء الأمر بأنَّه يُصلِّي كذا من الرَّكعات مثلا.
والثاني: أنْ لا يكون كذلَك، بل كان الأمر إليه كيفما شاء، تَدَّرَج من الأقل إلى ما شاء الله.
فالحديث إنْ كان واردًا على الاعتبار الأوَّلِ دل على مطلوبية المَثْنَى البتة، لأنَّه يكونُ حينئذٍ تعليمًا مِنْ جانبِ الشارع لأداءِ وظيفتِهِ كيف يُصَلِّيها، فعلَّمه أَنَّه يصليها مَثْنَى مَثْنَى ويتبادر منه استحبابه، وإنْ حملناه على الاعتبار الثاني فلا يدل على الاستحباب أصلا بل يكون بناءً على أَنَّ مَثْنَى أَقلُّ صلاةِ الليل، ولذا كرره ليدُل على أنَّ ذلك إليه مهما جاء بِشَفْع ثم جاء بشفع آخر تدرجًا على انتظارِ الصبح فعل، ولذا شَرَع مِنَ الأقلِّ لأنَّه قد لا يجد إلا مَثْنى مرةً، وإذا لم تَتَعيَّن وظيفة، ولا أَعطاه الشارع عددًا معينًا من عنده، بل تَرَكَهُ على قَدْر طاقته وفُسْحَةِ وقته جاءَ التَّعبيرُ هكذا، فظهر أَنَّ التصدير بالمَثْنَى ليس لكونِهِ مطلوبًا بل بناءً على الأقلِّ لأنَّه لا يَعْلَم أَنَّه كم يُدْرِك فَإِنَّما الأمرُ فيه إلى المُصَلِّي كيف شاء صَلَى، وجاء يزيد شيئًا فشيئًا حتى إذا هَجَمَ عليه الصبح أو أَرَادَ النوم يُوتِر بواحدة، وبعبارة أُخْرى أنَّ الشيءَ قد يُذْكَر لاعتبارهِ في نفسه، وقد يُذْكر لا لاعتباره في نفسه بل لِدَفْعِ إيهام المضرَّة عند ذكر جانب مخالفِهِ.
وذِكْر المَثْنَى من قبيل الثاني لا مِنْ قبِيل الأوَّل ليدُل على اعتبارِهِ واستحبابه، وذلك لأنَّه لو ذَكَرَ الأربع لأوهم أنَّه الراجح، وربما أمكن أَنْ لا يكونَ مقصودًا لأنَّه واقعٌ في الوسط، وترك