الأول والتنزل إلى الوسط يَحْتَاج إلى نُكتة قطعًا، بخلاف ما إذا بُدِىءَ بالمبدأ والأقل، فإنَّه على الأصل غير محتاج إلى نُكْتة، لأنَّ البدايةَ بالمبدأ طريقٌ معروف، كتعريف المبتدأ وتنكيرِ الخبر ولا سيما إذا كان ذِكْرُه جَرَى تبعًا فقط، لأنَّ الحديث على ما يَظْهر سِيق لبيان صفة إيتار صلاة الليل بالواحدة كما هو مصرح في لفظِ مسلم:«أنَّ سائلا سأله فقال: يا رسول الله كيف أُوتِر صلاةَ الليل؟ فَجَعَل السؤالَ في الإِيتار لا في صلاةِ الليل، فقال: «من صلَّى صلاةَ اللَّيلِ فليصلِّ مَثْنَى مَثْنَى ... إلخ. وكأنَّه كان يَعْلَم صلاةَ الليلِ والوترِ من قَبْل، وإنَّما أُبْهِم عليه كيفية إيتارها، هل يُوتر في الأوَّل أو الآخِر أم كيف يفعل؟ فأَرْشَدَه إلى أَنَّه يُوْتِر في الآخِر، ويكونُ بذلك موترًا لجميع صلاةِ الليل. وفَهِمَ الحافظُ رحمه الله تعالى أَنَّ سؤاله عن صلاةِ الليل وعددها خاصة، فَأَرْشَده النَّبي صلى الله عليه وسلّم إلى أَنَّهَا مَثْنَى مَثْنَى ولا يكونُ إذن ذكره إلا قصديًا ويتبادر منه استحبابه لا محَالَة؛ وإذ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السؤال لم يَقَع عن صلاةِ اللَّيل نفسِهَا بل عن إيتارِهَا، تَبَيَّن لك أَنَّ ذِكْرَ المَثْنَى تمهيدٌ لقوله: «فإذا خَشِي أَحدكم الصُّبْحَ فليوتر بواحدة»، لا أنه مقصودٌ، فلا يَتِمُّ ما رامه الحافظُ، ولذا لمَّا سُئِلَ أبو داود عن صلاةِ الليل، قال: إن شِئْتَ مَثْنَى وإنْ شِئْتَ أربعًا. كذا في سننه من باب صلاة النَّهار.
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في تفسير المثنى يخالفهُ ما رواه الترمذي في تفسيره مرفوعًا «من التخشّع في الصلاة مَثْنى مثنى تشهد في كل رَكعتين» إلا أنَّ في المسند أنَّه قال في جواب سائل صلاة الليل: «مثنى مثنى تسلم في كل ركعتين» فَجَعَل التفسير بالسَّلام مرفوعًا، وفيه تردد لأنَّه عند الأَكْثَرِ موقوف فلعله مُدْرَج، وكذلك في حديث التخشع زيادة:«وتَشْهَد وتُسلم في كلِّ ركعتين». والحديث إنْ كان مِنْ مُسْنَد الفضل بن عباس كما صوَّبه البخاري فليس فيه التقييد بصلاةِ الليل ولا زيادة السَّلام، وإنْ كان من مُسند المطلب ففيه ذلك، وقد أَخْرَجَه في المُسْنَد عن مسنديهما كليهما، وهذا كلام في صلاة الليل ما الأفضل فيها مثنى أو رباع.
بقيت مسألة الوتر، فاعلم أنَّ الشافعية حَمَلوا قوله:«صلِّي رَكعة واحدة توتر له» على الفَصْل. فالوتر ركعة واحدة. قلت أوّلا: قال ابنُ الصَّلاح: إنَّه لم يثبت منه صلى الله عليه وسلّم الاقتصارَ على واحدة، ولا يُعْلَم في روايات الوتر مع كَثْرَتِهَا أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أوْتَر بواحدةٍ فحسب، كذا في «التلخيص» وتعقبه الحافظ رحمه الله تعالى بما ليس بشيء، وإذن حَمْلُه على الإيتار بالواحدة حمل على مسائلهم، والذي يتحصل بعد المُرَاجَعَة إلى جميع الألفاظِ أنَّه نحو تعبير وأداء ملحظ فقط لا بيان مسألة الفَصْل والوَصْل فليراعه النَّاظر، فإنَّ الرَّاوي قد يُؤدي طرفًا من الكلام ويحمله آخر على طرف آخر، فيفقد مراده، ويكونُ من باب توجيه القائِل بما لا يَرْضَى بِهِ قائله.
ألا تَرى أنَّ عائشةَ رضي الله عنها تروي الإِيتار بالوَاحدة وهي التي تصرح بأنَّه لم يكن يُسَلِّم بين رَكعتي الوتر، فهل تَرَاهَا تُناقض قولها، أو تلك تفنن في العبارات، وطرقٌ في العد والحسبان، فأرَادَت تارةً أنْ تَدل على أنَّ الإيتار في الحقيقةِ إنَّمَا تتقوم بالواحدة وإنْ كانت رَكعات الوتر ثلاثًا بدون السَّلام بينهن، إلا أنَّ صِفَة الإيتار إنَّما حَصَلت فيها من جهة الواحدة الأخيرة، وهذا أمرٌ بديهي يَعْلمه البُله والصبيان، أنَّ الإيتار لا يَحْصُل إلا بِهَا فلم تَتَعرض فيه إلى