ممَّن دخلَها أَوَّلا وإِنْ كان بينهم تفاوت في الأجور، لكنَّهم أَدْرَكوا الدعوة كلهم، فاللَّهُ سبحانه خلق الدُّنيا وسوَّى فيه مأدبة، ودعى لها دعوة، فمنهم مَنْ أَجابَ، ومنهم من صدَّ عنها، ودَخَلْنَا نحنُ في آخِرِهم وأكملنا بقية اليوم، فاستوفينا الأجرَ الموعود في اليوم كله، فكأنَّ الدنيا كلها كيوم واحد عند ربك، والمطلوبُ مِنَ الداخلينَ أَنْ يَعْمَلُوا إلى آخرِ اليوم، فَمنْ عَجَزَ عنه نَقَصَ أجرُهُ، ومَنْ قَامَ به وُفِّيَ أجرُه.
ولمَّا جفَّ القلمُ بالقيراطين لمن يُعْمَل إلى الغروبِ، واتفق أنَّه استأجرنا صاحب المأدبة في آخر اليوم فعملنا إلى مُدَّته استوفينا القيراطين نحن، فنحن وإِنْ دَخَلْنَا في آخر اليوم عند النَّاس إلا أنَّا عُومِلْنَا معامَلَة الذين دخلوا أَوَّلَ اليوم على قاعدة باب الاجتماع، فبقي تقسيم العاملين وعملهم في نظرنا وأما عند ربك فالعبرة بالمجموع والخواتيم.
ومن هذا الباب:«هم القوم لا يَشْقَى جَلِيسهم»، فمن دَخَل معهم كان ملَثهم في استحقاقِ الأجر رحمةً من الله تعالى، ولم يُحْرَم من الأجر، وإِنْ كان في نظرنا هو التقسيم في الداخلين، لكنَّ الله سبحانه نَظَر إلى مجموعِ العمل وعدَّ الداخل في آخره بمن دَخَلَ في أوله، ومن ههنا ظَهَرَت المناسبةُ بين الترجمة والحديثين، بأَن مُدْرِك الرَّكعة مُدْرِكٌ للصَّلاةِ في نَظَرِ الشارع، ومُدْرِك الركوع مُدْركٌ للرَّكعة عنده، ومَنْ أَدْرَكَ من الصَّلاةِ رَكعة فَقَدْ أَدْرَكَ، كمن دَخَل في آخر اليومِ فقد أَدْرَك أَجْرَ اليوم كله، وما في كتاب الإيمان أَنَّ مُدْرِكَ الرَّكعَة لا يُعد مُدْرِكًا للصَّلاة، فمبْنَاه على أمر آخر، وهو نظر آخر ذُكِر في موضِعه.
وإن كنتَ فَهِمْتَه فاعلم أَنَّ حديث:«من أَدْرَكَ الصَّلاة ... » الخ. إنَّما وَرَدَ في باب الاجتماع والجماعة لتعليم أَنَّ الدَّاخلَ فيها إلى أي جزءٍ منها يُعَدُّ داخلا؛ فبين أنَّ المدرِكَ من أَدْرَكَ رَكعة منها وبعدها، وإِنْ أَحْرَزَ شيئًا من الأَجْرِ أيضًا إلا أنَّه لا يُعَدُّ مدرِكًا لها في نظر الشارع.
ثُمَّ إنَّ الناسَ جَرُّوه إلى مسألةِ المواقيتِ، ولم يروا إلى أَنَّ إدْرَاك الوقت بجزءٍ منه بابٌ مستقل، لم يَرِد به الشرع، ولم يَتَعَرِّض إليه، فلو عَلِمْنَاه أَنَّه أيضًا بابٌ عِندهُ لعددناه من جزئياتِه، ولَحَمَلْنَاهُ عليه، بخلافِ إِدْرَاك الصَّلاة من إِدْرَاكِ الرَّكعة، فإِنَّه بابٌ مستقل أَقَامَتْهُ الشريعةُ في مواضع وتَعرَّضَت إِليه، فحملناه عليه، فإِذا علمناه بعد السَّبْر كذلك، لم يَسُغْ لنا أَنْ نحملَهُ على مسألةِ المواقيت.
ثم إنَّ حقيقةَ الإِدْرَاك أَنَّها كانت على شَرَفِ الفوات فتلافاه على نحوِ تَقْصِيرٍ منه وأَدْرَكَها، كَمَنْ سابقَهُ أحد فسبقه فأَدْرَكه هذا بعد جِدَ واجتهاد منه، فهكذا حال مُدْرِك الرَّكعَة، فإِنَّ الإِمام قد سَبَقَهُ بصلاته وتَرَكَهُ خلفه فدخل هذا في الركعة، وأَدْرَكَه في عملهِ بهذا الجِدّ وعدَّهُ الشارعُ داخلا في هذا العمل، وكذلك حال مَنْ أَدْرَكَ الرُّكوع، فإِنَّه كاد أَنْ يَتَخَلف عن الأَجْرِ أي أجر تِلْكَ الرَّكعة فَجَدَّ واجتهدَ حتى أَدْرَكَ ركُوعَها فكأَنَّه أَدْرَك تلك الرَّكعة بما فيها، ولذا سقطت عنه الفاتحة مع أنَّه لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتاب، وهذا مما قد أجمعوا عليه، فالرُّكوعُ عندي آخر موضع تُحْتَسَب فيه الشِّرْكةُ. وأمَّا مركزُ الصَّلاة فهو موضِع التأمين، وهو نُقْطَةُ مَرْكَزِ الدائرة،