للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومجتَمع الملائكة والنَّاس. وهناك وَعْدُ المَغْفِرَة فهو مقام الجمعِ، فمقام السَّبْقِ: التحريمة، ومقام الاحْتِسَاب: الركوع، ومقام الجمع: آمين.

فإِنْ شئتَ أَنْ تَعْرِفَ السابقين بسيماهم، فاحْفَظِ التحريمة تعرفهم وإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَوَسَّم المجتمعينَ مَع الملائِكَة فلا تَنْسَ مَوضِع التأمين تفوز بهم، وإنْ تُرِدْ أَنْ تَقِفَ على مَنْ أَدْرَكُوا الرَّكعَة آخرًا، فاذكر الرُّكوع تَفْرُسهم، ثُمَّ إِنْ فَاتَك التأمين فلا يَفُتك موضع التحميد فإِنَّه أيضًا موضع الوعد تلافيًا لمن فاته التأمين، وقد ورد في الخبر «أَنَّ الصدِّيق الأكبر رضي الله عنه تخلَّف مرةً عن التحريمة وأَدْرَكَ إمامه في الركوع، فأحرم بها، وقال: الله أكبر، ثُمَّ قال: الحمد لله، ثُمَّ رَكَع، فكأَنَّه كان اختصارًا منه للصَّلاة، فلمَّا فَرَغَ النبي صلى الله عليه وسلّم عن صَلاتِه أُوْحَيَ إليه أَنَّه سمع الله لمن حَمِده». فَجُعِل مكان التَّكْبِير عند الرَّفع مِنَ الرُّكوع، وقد كانوا يُكَبِّرون فيه قَبْل ذلك، فهذا نحو تَلاف فاعلمه.

ثم إِنَّ ههنا بحثًا آخرِ وهو أنَّه ما الذي أُريد مما قصروا فيه وأتممناه؟ فإِن كان المرادُ منه الشريعة فقد قصَّرنا فيها أيضًا، ومنَّا أيضًا مطيعون وعاصون مثلهم، فإِنْ كان مقابلةُ أفاضل هذه الأُمة بمَنْ سَلَفَ مِنْ أَفَاضِلِهم، فلا يَصِح عدُّ أفاضلهم من المقصِّرين، وأفاضلِنا من المؤتمرين، ولَكِن الأحسن حينئذٍ أَنْ يُفَرَّق بالقِلة والكَثْرَة، فإِنَّ أفاضِلَ هذه الأمةِ أكثرُ كثير بمن مضى من قبلهم، وإن كان بين الأَرَاذِل والأراذل فَهُم في التركِ والتقْصِير سواء، مع أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لَتَّتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ قَبْلَكم شِبرًا بشبر وذراعًا بذراع» فأي أمرٍ قَصَّروا فيه وقُمنا بحقه؟

والذي يَظْهَر أَنَّه باعتبارِ مجموع الأمة، لا باعتبار الأفاضلِ، ولا باعتبارِ الأَرَاذِل. والفَرْق بقِلَّة المقصِّرين فينا وكَثْرَتِهم فيهم، على عكس المطيعين، أَمَّا حديث الاتباع بمن قبلنا فهو ساكتٌ عن بيان القِلة والكَثرة إنَّما أَرَادَ به بيانَ الاشتراك في نوع الفعل، فجاز الاختلافُ بين الكم والكيف.

واحتج القاضي أبو زيد الدَّبُوسي وهو أَوَّلُ من دَوَّنَ علم الخلاف، وهو عِلْمٌ بين الفِقْهِ وأصول الفقه (١) على مسألة المثلين، وتقريره أَنَّ قولَه صلى الله عليه وسلّم «إنَّما أجلكم ... الخ» يفيد قِلَّة زمان مدة هذه الأمة بالنسبة إلى الأُمم الماضين، وزمان هذه الأمة مشبَّه بما بين العصر والمغرب، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ قليلا بالنسبةِ إلى زمانِ النَّصارَى، إلا إذا كان وَقْتُ العصر من حين


(١) قلتُ: وههنا كلامُ متين، ذَكَرَهُ الشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى في "بستان المحدثين" وتَعقَّبَ عليه مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى في آخر حاشيتِهِ على "الموطأ" مِنْ وجوه فليُنظر فيه، فإنَّ المقامَ مَزَالُّ الأقدام. قال ابن رشد في بيان سبب الاختلاف بين الأئمة في ذلك: إن مالكًا والشافعي رحمهما الله تعالى ذهبا إلى حديث إِمَامَة جبريل، وذَهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى مفهومِ ظاهرِ هذا، وهو أَنَّه إذا كان من العَصْرِ إلى الغروبِ أَقْصَر من أَوَّل الظُّهْرِ إلى العصرِ على مَفْهُوم هذا الحديث، فواجبٌ أَنْ يكونَ أول العصر أكثر من قَامَة: وأَنْ يكون هذا هو آخر وقت الظُّهر. قال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظَنُّوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر ... الخ بداية المجتهد.

<<  <  ج: ص:  >  >>