أمَّا ما تمسُّكوا بما نقل في سُنِّيَّة التغليس حتى إذا استشهد عمر رضي الله تعالى عنه، فليس فيه ما يدلُّ على مَذْهَبِهم، فإِنَّ التَّغْلِيس في البداية لا ننكره أيضًا، وما عَمِلَ به عثمان رضي الله تعالى عنه فهو الإِسفار بداية ونهاية، ليكون خُروجهم في وقتٍ يأمنُونَ فيه، ولا يَخافون أن يُغْتَالوا كما اغْتِيل عمر رضي الله تعالى عنه، وأمَّا ما تمسكوا به ممَّا روي في حديث جبريل عند أبي ادود في سِيَاق تأخيرِ عمر بن عبد العزيز في صلاة العصر أنَّه صلَّى الصُّبحَ مرةً أخرى فأَسْفَرَ بها ثُمَّ كانت صلاته بعد ذَلك التَّغْلِيس حتى مات لم يعد إلى أَنْ يُسْفِرَ. فقوله: لم يعد ... الخ علله أبو داود.
وعندي له وجه، ومعناه: أنَّه لم يعد إلى الإِسفارِ كما كان أَسْفَرَ بها في اليوم الثاني، وهكذا كان ينبغي، لأنَّ جبريل عليه السَّلام علَّمه آخر وقتها في ذلك اليوم، وقد عَلِمْتَ أنَّا لا نعني بالإِسفار أَنْ يُصلَّي بها بحيث لا يَبْقَى بعدَهُ وقتٌ، أو يَبْقَى وقتٌ لم يَسعْ للصَّلاةِ، أو وسعها لكنَّه لم يَسع لها مع مراعاةِ الآداب. والدليل عليه ما أَخْرَجَهُ أبو داود في حديث جبريل أنَّه:«لمَّا كان من الغَدِ صلَّى الفجر وانصرف، فقلنا: أَطَلَعَت الشمس؟» انتهى. فدلَّ على شِدَّةِ التأخيرِ بحيث توهم منه «طلوع الشمس ونحوه عند مسلم في حديث أبي موسى في قِصة تَعْلِيم الأوقاتِ أعرابيًّا «أنَّه أَخَّر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول قد طَلَعت الشمس أو كادت» انتهى.
فالصَّلاتين في هذين اليومين كانتا في شِدَّة الغَلَس مرةً، وفي شدة الإِسفار أخرى، ثُمَّ جَرَى عَمله على التوسط والذي يَظْهَر أَنَّ العملَ في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلّم كان على التَّغْلِيس ولا يجب أن يكونَ بِقَدْرِ ما رامَهُ الشافعية رحمهم الله تعالى مع أَنَّ الزمانَ إذْ ذاك كان زمانَ الشدة في العمل، والنَّاس كانوا يَتَقَيَّدون بصلاةِ الليل، فلم تَكُنِ الجماعة تَخْتَل بالتغليس، ثُمَّ إذا نشأ الإِسلامُ وكَثُرَ المسلمون وعَلِمَ أَنَّ فيهم ضعفًا عَمَلَ بالإِسفار في زمن الصحابة رضي الله عنهم، لئلا يُفضي إلى تقليل الجماعةِ، وقد عَلِمْتَ فيما سَبَقَ أَنَّ بُطْأَ النَّاس وتعجيلهم ممَّا قد رَاعَاه النَّبي صلى الله عليه وسلّم أيضًا، فلو اجتمع النَّاس اليوم أيضًا في التَّغْلِيس لقُلنا به أيضًا كما في «مبسوط السَرَخْسي» في باب التيمم أَنَّه يُستحب التَغْلِيس في الفجر، والتعجيل في الظُّهْرِ إذا اجتمع النَّاس، ثُمَّ إنَّا لا ننازعك أنَّ الأمرَ كيف كان في عهدِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم ونرجو منك أن تعذرنا في العمل بالإِسفار، فإِنَّا قد أُمِرْنا به بصريحِ النَّص «أسفروا بالفجر» وليرَ كُلُّ امرىءٍ وظيفتَه ولا يبحث مما كان أو يكون، هذا هو الصراط المستقيم فاتبعوه. وبعد فقد نقل السخاوي عن الحافظِ ابن حجر كما في «شرح الإِحياء» أنَّه أقرَّ بكونِ مذهبِ الحنفية أَقْوَى.
والحاصل: أنَّ العملَ قد بقي مشتركًا بيننا وبينهم فلهم أَنْ يَحمِلُوه على مسائِلهم. ولنا: أَنْ نحمِلَهُ على مختارنا، أمَّا القول أي «اسفروا بالفجر» فهو لنا خالصًا إِنْ شاء الله تعالى فناهيك به إمامًا في حديث عائشة رضي الله عنها: «ما يعرفن من الغَلَس» فقوله: «من الغَلَس» ليس مرويًا عن عائشةَ رضي الله عنها، بل هو قياسٌ مِنْ راو آخر، كما يُعْلَمُ من ابنِ ماجه، وفيه «تَعْنِي من الغَلَس».