الحافظُ: وفيه جَرِير عن عَطَاء، وسماعهُ منه بعد الاختلاط، وحديثُ عائشة رضي الله عنها هذا، يَدُلُّ على المُدَاوَمَةِ عليهما، حيث قالت: والذي ذهب به ما تَرَكهما حتى لقي الله.
ثُمَّ عند أبي داود عن عائشةَ رضي الله عنها نفسها: أَنَّها رَدَّتِ الأَمرَ إلى أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها حين استَخْبَرُوها عنهما، كأَنَّه لم يَكُن عندَها علمٌ بهما. وعند الطحاوي: أَنَّ معاويةَ رضي الله عنه أَرْسَلَ إلى عائشةَ رضي الله عنها يسألها عن السَّجْدَتَيْنِ بعد العصر، فقالت: ليس عندي صلاهما، ولكن أم سلمة حَدَّثَتني أَنَّه صَلاهُما عندها ... الخ ولو قَطَعنا النَّظر عن هذا الاضطراب فهي بنَفْسِها تقول: إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي بعد العصر ويَنْهَى عنها، ويُواصِل ويَنْهَى عن الوِصَال، فحديثُ عائشة رضي الله عنها ليس دليلا على جواز الصَّلاة بعد العصر أصلا أو هو دليلٌ لنا لصراحتها أَنَّها كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلّم كالوِصَال.
أَمَّا إِحْداثُ مرتبة أُخْرَى فيه، والادعاء بجواز نفس الصَّلاة، وإرجاع الخُصوصية إلى المُداوَمَة، فتجريد منطقي لا يُعْتَبَرُ في كلام الشارع، ثُمَّ قد عَلِمْتَ أَنَّ أَصْلَ الخبر كان عند أُمِّ سلمة رضي الله عنها، ولذا أَدَّت إليها عائشة رضي الله عنها حين سُئِلت عنها فهي التي تَرْوي عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم بإِسنادٍ فيه زيد بن هارون أنا حماد بن سَلَمَة عن الأَزرق بن قيس عن أُمَّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت: يا رسولَ الله أفنقْضِيَهما إذا فاتتا؟ قال:«لا». فما ترى فيها الآن؟ وغايته ما اعتذروا عنه أَنَّ يزيد بن هارون عن حَمَّاد فيه شيء.
قلتُ: وقد تتبعتُ له مسلمًا فوجدتُ أنَّه أَخْرَج عِدَّةَ أحاديث بها الإِسناد.
ومرَّ عليه السُّيوطي في «الخصائص الكبرى» وصححه، وهو في «مسند أحمد» أيضًا، فإِذن هو في أَعْلَى مرتبةِ الحَسَن لذاته، وعند الطحاوي بأسانيد عديدة: أَنَّ عمر كان يُعَزِّرُ مَنْ كان يُصلِّي بعد العصر وذلك بمحضرٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُنكِرْ عليه أحدٌ أيضًا، وعند الطحاوي عنه: أنَّه طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ، ولم يُصَلِّي رَكعتي الطَّواف حتى بَلَغَ ذو طَوَى. أَخْرَجَهُ موصولا، والبخاري معلقًا، وما ذلك إلا لخُروج وَقْتِ الكراهة. وقد صرَّح الترمذي بعبارةٍ كاد أَنْ تُومىء إلى إجماعهم على ذلك. وهذا نصه: والذي اجتمعَ عليه أَكْثرُ أهلِ العلم على كراهية الصَّلاةِ بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، وبعد الصُّبْح حتى تَطْلُع الشمس، إلا ما استُثْنِيَ من ذلك مثل: الصَّلاةُ بمكة بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، وبعد الصُّبْح حتى تطلع الشمس يعد الطَّواف. اهـ.
كيف لا وقد تواتَرت الأحاديث في النَّهي عن الصَّلاةِ في هذين الوقْتَيْن أَمَّا ما وَرَدَ فيه من الاستثنَاءِ فهو ضَعيفٌ عندَهُم وفي كتاب «النَّاسخ والمنسوخ» عن الأَثْرَمِ أَنَّه كان يقول: حديثُ عائشة رضي الله عنها في مُدَاوَمَةِ الرَّكعتين بعد العصر معلولٌ. وَنَقَل ابنُ الجوزي عن ابنِ عقيلٍ: أَنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ بعدَ العصرِ والفجرِ لِئَلا يُلْزَم الدُّخول في عين الطُّلُوع والغروب، فالممنوعُ هو الوصل، كما هو مذهبُ بعضِ السَّلَف، ومنه ظَهَر وَجْهُ الجمع بين النَّهي عن الوصالين، قال القاضي ابن العربي: إِنَّ العِلَّة وإِنْ أَوْجَدَت الحُكْم ابتداءً لكن الحكم يَدُورُ على لَفْظِ الحديث انتهاءً. وقال علماءُ الأصول: إِنَّ الحِكْمَةَ لا يجب طَرْدُها وعَكْسُها والذي يَجِبُ فيه ذلك هو العِلَّةُ الفقهية، والنَّبي صلى الله عليه وسلّم لمَّا كان مأمونًا عن هذا التَّخْلِيط، ساغ له أَنْ يُصلِّيهما بعد العصر.