للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأَخْرَجَ السُيوطي رحمه الله تعالى: أنَّ أبا أيوب الأنصاري كان يُصلِّي بعد العصر في زمنِ عمر رضي الله عنه، فرآه عمر وهَدَّدَهُ على عادتِه في هاتين الرَّكعتين، فقال له أبو أيوب رضي الله عنه: لا أَتْرُك شيئًا كنت أَفْعَلُه في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلّم فقال له عمر رضي الله عنه: مالي ولك؟ إنَّما أَنْهَى عنها سدًّا للذرائع. وهذا يَدُلُّ أَنَّ مذهَبَهُ فيهما كمذهبِ بعضِ السَّلَفِ، وإذا عَلِمْتَ حال هاتين الرَّكعتين، فانصف من نَفْسِك أَنَّ العَمَل بهمَا أَوْلَى أو بالنَّهي الذي تواتر عنِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم ولِمثْل هذا تركهما الدارمي، وعَمِلَ بقول عُمَر رضي الله عنه، وإليه مال أكْثَر السَّلَف.

وأعلى ما في الباب عندي ما عن الليثِ بن سعد في «الطبقات» ونَقَلَهُ العيني: أَنه حَضَرَ بمكةَ في سَنَةٍ - أراه ثلاثة وثمانين - في موسمِ الحج، وانكَسَفَتْ الشمس بعد العصر، فلم يُصلوا صلاة الكُسوفِ مع كَونِها من ذواتِ الأسباب، فسألوا: أَنَّهم لِمَ لا يُصَلُّون صلاة الكُسُوفِ فقالوا: لكَرَاهةِ الوقتِ، وكان ذلك بمَحْضَر أُلوفٍ من التابعين رحمهم الله تعالى والصحابةِ رِضْوَان الله تعالى عليهم أجمعين.

وليث هذا حنفي كما صَرَّح به ابن خَلِّكان في كتاب «الخَراج» وقال الشافعي رحمه الله تعالى في حقه: إنه ليس عندنا بأدون من مالك رحمه الله تعالى إلا أَنَّ أصحابَهُ ضَيَّعُوهُ. وهذا الليث يَرْوِي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في باب قِراءَةِ الفاتحة خلف الإِمام عند الطحاوي رحمه الله تعالى، وقد نَقَلْنَا صورةَ الإِسنادِ فيما سَلَف. ثُمَّ لا يَخْفَى عليك أَنَّ تَقلِيدَ مثل الليثِ كتقليدِ المتقدمينَ. وفي مُسْنَدِ الدارمي: أَنَّه لمَّا حَدَّثَهُم حديث عائشة رضي الله عنها سألوه عنه، قال: وإنَّما عَمَلي على ما عَمِلَ به عُمر.

وإنَّما كان يَعْمَل بهما ابنُ الزبير رضي الله عنه تَعَلَّما مِنْ عائشة رضي الله عنها كما هو عند المصنِّف رحمه الله تعالى في الحجِّ قال: رأيتُ ابنَ الزبير رضي الله عنه يُصَلِّي رَكعتين بعد العصر، ويُخْبِر أَنَّ عائشةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لم يَدْخُل في بيتها إلا صلاهما. قال الحافظُ رحمه الله تعالى: وكان ابنُ الزبيرِ فَهِمَ منه ما فَهِمَتْهُ عائشة رضي الله عنها، أي أَنَّ النَّهي عن الصَّلاةِ بعد العصر، مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَصَدَ الصَّلاة عند غروبِ الشمس.

ثُمَّ يَظْهَر مِنَ الرِّوايات أَنَّهما رَكْعَتَانِ فاتتاه بعد الظُّهْرِ فقضَاهُما بعد العصر، ومِنْ سُنَن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أَنَّهم إذا فَعَلوا عِبَادةً مرةً داوموا عليها، وكثيرٌ من عبادتِنا من شَعَائِر عباد اللَّه، كما مرَّ عن الطحاوي رحمه الله تعالى (١).


(١) قلتُ: وعن عائشةَ رضي الله عنها بعدَ هذه الرِّوايات بقليل، أَنَّها قالت: رَكعتانِ لم يَكُنْ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعهما سِرًّا ولا علانِيَة، رَكعتان قَبْلَ الصُّبْحِ، ورَكعتان بعد العصرِ. اهـ وهذه الرِّواية تُنَاقِضُ ما رُوِيَ عنها أنه كان يُسِرُّ بهما ولا يُصَلِّيهما في المسجد، مَخَافَةَ أَنْ يُثْقِلَ على أُمَّتِه إلا أنْ يُقال: إنَّ تعميمَ السرِّ والعلانِية بالنسبةِ إلى رَكْعتي الفجرِ دون التي بعد العصر. ثم نَقَلَ الحافظُ رحمه الله تعالى فيهما زيادة. وهي: "لم يكُن يَدَعُهُما في بيتي"، فإن استطعتَ أنْ تأخُذَ السرَّ والعلانِيةَ باعتبار البيت فافعل، وإلا فيكونُ هذا اضطرابًا آخر، وحينئذٍ لا يجري فيه ما جَمَع به الحافظُ رحمه الله تعالى بين حَدِيثَي ابنِ عباسِ وعائشة رضي الله عنهما، مِنْ أَنَّ النفي في حديث ابنِ عباس رضي الله عنه محمولٌ على عِلْمِ الراوي، فإِنَّه لم يَطَّلع على ذلك، لكونِهما في بيتها والله تعالى أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>