فقط، بل أرادت بيان شدَّة التقارُب بينهما. فإن كان حنفيٌّ يريد أن يَجْمَدَ على ظاهر تعبيرها، ويشدِّد على الشافعية، فليس بسديدٍ، فإن الشيءَ من باب المحاورات، والأخذ فيه بمثله، أخذٌ بكل حشيشٍ.
والرابع: أنه إن أذَّن قبل الوقت، فهل يُجْتَزِىء بذلك، أو يعيده في الوقت أيضًا؟ فادَّعى الشافعية أنه يُجْزِىءُ بذلك، واسْتَبْعَدَه الحنفية، وقالوا: كيف مع ورُود التكرار في متن الحديث صراحةً؟ والمختار عندنا أنه لا يُعْتَدُّ بالأذان قبل الفجر، ويجب الإعادة في الوقت، كما في سائر الأوقات عندهم أيضًا.
والخامس: أن الأذان الأول كان للفجر، أو لمعنى آخر؟ فذهب الشافعيةُ أنه كان للوقت كالثاني على طريق الإعلام بعد الإعلام، وادَّعى الحنفيةُ أنه كان للتسحير لا للوقت. وتمسَّك له الطحاويُّ بما رُوِيَ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وهو عند مسلم أيضًا:«لا يَمْنَعَنَّ أحدَكم أذانُ بلالٍ، أو قال: نداءُ بلالٍ من سَحُوره، فإنه كان يُؤَذِّن ليَرْجِعَ قائمكم، ويُوقِظَ نائمكم» ... إلخ فتبيَّن منه أن أذان بلال إنما كان لأجل أن يَرْجِعَ قائم الليل عن صلاته ويتسحَّر، ويستيقظ النائم فيتسحَّر، فهذا تصريحٌ بكونه للتسحير لا للفجر. وأمَّا للفجر، فكان ينادي به ابن أم مكتوم، ولذا كان يَنْتَظِرُ الفجرَ ويتوخَّاه.
وتحيَّر منه الحافظُ ولم يَقْدِر على جوابه، إلا أنه قال: لا تناقُضَ بين الأسباب، فَجَازَ أن يكون للتسحير أيضًا. ثم المذكور في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في جميع طُرُقه هو الأذان الواحد فقط، ولا ذكر فيه للثاني، فَحَمَل الحنفيةُ الساكتَ على الناطقِ، وَعَجَز عنه الحافظُ أيضًا، فإنه لا دليلَ فيه حينئذٍ على الاجتزاء بالأذان الواحد.
والسادس: أنه كان في رمضان خاصةً، صرَّح به أحمدُ رحمه الله تعالى كما في «المغني» لابن قُدَامة، وابن القطَّان كما في «الفتح»، وابن دقيق العيد كما في «التخريج» للزَّيْلَعِي.
والسابع: أن هذا الأذان كان بعين تلك الكلمات، أو بكلماتٍ أخرى غير المعروفة، فذهب السَّرُوجي منا أنه كان بكلماتٍ أخرى غير تلك الكلمات، وحمله الشافعية رحمهم الله تعالى على المعروف. فهذه سبعة مباحث.
ولعلَّك فَهِمْتَ منها أن في استدلالهم نظرٌ من وجوهٍ: الأول: في ثبوت نفس التكرار، وإن سلَّمناه، فلنا أن نمنع كونه بكلماتٍ معروفةٍ، لِمَ لا يجوز أن يكون بكلماتٍ أخرى؟ وإن سلَّمناه، فلِمَ لا يجوز أن يكون في رمضان خاصةً؟ ولو سلَّمناه أيضًا، فَلِمَ لا يجوز أن يكون الأول للتسحير لا للفجر؟ فعليهم أن يُثْبِتُوا هذه الأشياء، ودونه خَرْطُ القَتاد.
قلت: لمّا رأيت الحنفيةَ يتأوَّلون بكون الأول في رمضان خاصةً، تتبعت له كتُبَ الفقه: أن المسألة عندنا هي أيضًا كذلك، أو هو مجرد احتمال واحتيال، فوجدتُ في «شرعة الإسلام» لشيخ صاحب «الهداية»: جواز العمل به في رمضان عندنا. وحاصلُ هذا الجواب: أنه لا نِزَاع في نفس التعدُّد، وإنما النزاع في تعدُّد الأذان للفجر، ولا دليلَ عليه من ألفاظ الحديث، بل فيها أنه كان للتسحير، وهو جائزٌ عندنا أيضًا.