للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وههنا جوابٌ آخر ساقه الطَّحاويُّ في «معاني الآثار»، وقال: يحتمل أن يكون بلالا كان يؤذِّن في وقتٍ كان يَرَى أن الفجرَ قد طَلَعَ فيه، ولا يتحقَّق ذلك لضعف بصره، لما رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره شيئًا». وفي بعض ألفاظ عندي: «فإن في بصره سوءٌ». وقوَّاه ابن دقيق العيد، ثم أيَّده الطَّحاويُّ بما رُوِي عن عائشة رضي الله عنها من التقارُب الشديد بين أذانيهما، حيث قالت: «فلم يكن إلاّ مقدار ما يَصْعَدُ هذا، ويَنْزِلُ هذا»، فثَبَتَ أنهما كانا يَقْصُدَان وقتًا واحدًا، وهو طُلُوع الفجر، فيخْطِئُهُ بلال لِمَا ببصره شيء، ويُصِيبُهُ ابن أم مكتوم، لأنه لم يكن يفعله حتى يقول له الجماعة: أصبحت أصبحت.

وله جوابٌ آخر: «أن الأسودَ سَأَلَ عائشةَ رضي الله عنها عن وترها، فقالت: إذا أذَّن المؤذِّن، قال الأسودُ: وإنما كانوا يؤذِّنون بعد الصبح». وسماع الأسود عن عائشة رضي الله عنها كان بالمدينة، ثم هو يروي أذان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد الصبح، وعائشة رضي الله عنها لم تُنْكِر على تركهم التأذين قبله، ولا أنكر عليه غيرها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أنها سَمِعَت من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في تعدُّد الأذان ما سَمِعَت.

وله جوابٌ آخر أيضًا: ما أُخْرِجَ عن ابن عمر رضي الله عنه: «أن بلالا أذَّن قبل طُلُوع الفجر، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يَرْجِعَ، فنادى: ألا إن العبدَ قد نام». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ما ذكرناه، وهو ممن قد رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ» ... إلخ فَثَبَتَ بذلك أن ما كان من ندائه قبل طُلُوع الفجر مما كان مباحًا له هو لغير الصلاة، وأننا ما أنكره عليه إذ فعله قبل الفجر كان للصلاة.

وقد رُوِيَ عن ابن عمر، عن حَفْصَة بنت عمر رضي الله عنهم في حديثٍ: «وكان لا يؤذِّنُ حتى يُصْبِحَ». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يُخْبِرُ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنُونَ حتى يُصْبِحَ». فهذا ابن عمر رضي الله عنه يُخْبِرُ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد طُلُوع الفجر. وأَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بلالا أيضًا أن يَرْجِعَ فينادي: «ألا إن العبدَ قد نام»، يَدُلُّ على أن عادتهم أنهم كانوا لا يَعْرِفُون أذانًا قبل الفجر، ولو كانوا يَعْرِفُون ذلك لَمَا احتاجوا إلى هذا النداء. وأراد به عندنا - والله أعلم - ذلك النداء إنما هو لِيُعْلِمَهم أنهم في ليلٍ بَعْدُ حتى يُصَلِّي من آثر منهم أن يُصَلِّي، ولا يُمْسِك عنه الصائم. اهـ. بتغييرٍ.

واعْتُرِضَ عليه من جهة الإسناد والمعنى جميعًا. أمَّا الأول، فقالوا: إن الصحيحَ وَقْفُه على عمر رضي الله عنه، فهو واقعةُ عمر رضي الله عنه مع مؤذِّنه، لا واقعة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم مع بلال وأُجِيبَ: إن حَمَّادًا إن سلَّمنا تفرُّده، فهو ثقةٌ مقبولٌ، مع أنه ليس بمتفرِّدٍ فيه، وله مُتَابَعَاتٌ شتَّى، وإحداها قوية، فلا يُمْكِن إنكاره وإنما اضْطَرُّوا إلى إنكاره لِمَا ثَبَتَ عندهم تقديم الأذان عن وقته، وهكذا قد يأتي الفِقْهُ على الحديث (١).


(١) قلت: ولئن سلمنا وقفه، حجة لنا أيضًا، وهل ترى عمر رضي الله عنه يخالف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لم ينكر عليه أحد منهم، غير أنهم تكلموا فيه أيضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>