وأمَّا من جهة المعنى، فكما قال الترمذي: إن حديث حمَّاد لو كان صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنى، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»، فإنما أمرهم فيما يُسْتَقْبَلُ، ولو أنه أمره بالإِعادة حين أذَّن قبل طُلُوع الفجر لم يَقُل:«إن بلالا يؤذِّن بليلٍ». اهـ. وأُجِيبَ: بأن العمل في تكرار الأذانين كان مختلفًا، فكان بلالٌ يؤذِّن بالليل، وابنُ أمّ مكتوم في الصباح، ثم صَارَ ابنُ أم مكتومٍ مكان بلالٍ، فكان ابنُ أم مكتومٍ يؤذِّن في الليل، وبلالٌ في الصباح. هكذا ثَبَتَ في بعض الروايات، وأخرجها الحافظ في «الفتح».
وزَعَم بعضُهم فيه قلبًا من الرَّاوي، والصواب أنه ليس بقلبٍ، بل محمولٌ على (١) اختلاف الزمانين وعليه استقرَّ رأيُ الحافظ بعد تطريقه. فإذا ثَبَتَ أنه كان كذلك، فلنا أن نقول: إن قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «إن بلالا يؤذِّن بليلٍ»، إنما هو في زمانٍ كان بلالُ يؤذِّن بالليلِ وابن أم مكتوم في الصباح. وأمَّا أَمْرُه إياه أن ينادي:«ألا إن العبدَ قد نام» فجاز أن يكون في زمان كان بلالُ يؤذِّن فيه في الصباح واتفق في ذلك اليوم أنه أذَّن في الليل على عادته القديمة، أو ظنَّ أن الفجرَ قد طَلَعَ عليه، فاحتاج إلى الاعتذار عنه. فإن الأذان بالليل قد كان فَرَغَ عنه ابنُ أم مكتومٍ، وكان ينبغي له ألا يؤذِّن إلا بعد طُلُوع الفجر لئلا يقع الأذانان كلاهما في الليل، فلمَّا أذَّن هو أيضًا بالليل لَزِمَه أن يَعْتَذِرَ عنه، لأنه قد أذَّن قبل وقته الذي كان يؤذِّن فيه، فهذا هو وجهه، والله تعالى أعلم.
ثم إنك قد عَلِمْتَ عن حَفْصَة رضي الله عنها: أنهم كانوا لا يؤذِّنون للصلاة إلا بعد الفجر، وهكذا عن الأسود في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد مرَّ آنفًا. وأخرج الطَّحَاويُّ عن سُفْيَان بن سعيد أنه قال له رجلٌ:«إني أؤذِّن قبل طُلُوع الفجر لأكون أول من يَقْرَعُ باب السماء بالنداء، فقال سُفْيَان: لا حتى يَنْفَجِرَ الفجرُ». وعن عَلْقَمَة عنده قال إبراهيم:«شيَّعنا عَلْقَمَةَ إلى مكة، فخرج بليلٍ، فَسَمِعَ مؤذِّنًا يؤذِّن بليلٍ، فقال: أمَّا هذا، فقد خَالفَ سنةَ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لو كان نائمًا كان خيرًا له، فإذا طَلَعَ الفجرُ أذَّن». وفي «التمهيد»، عن إبراهيم قال:«كانوا إذا أذَّن المؤذِّن بليلٍ أَتَوْهُ، فقالوا له: اتقِ الله، وأَعِد أذانك». ومن أراد التفصيل فليراجع الزَّيْلَعِي.
ثم ههنا دقيقةٌ أخرى يجب التنبيه عليها، وهي: أن الطَّحَاويّ ادَّعَى جوازَ الأكل في زمانٍ بعد طلوع الفجر أيضًا، ووافقه الداودي المالكي شارح البخاري، وأيَّده الحافظُ رحمه الله تعالى أيضًا، وأخرج أثرًا عن أبي بكر رضي الله عنه:«أنه أكل بعد الفجر»، وعن حُذَيْفَة مثله كما في «التفسير المظهري». واستشكل الحافظُ روايةَ الباب أيضًا، وقال: إنه جَعَلَ أذانَ ابن أم مكتوم غايةً للأكل، فلو أذَّن بعد دُخُول الصباح - كما يعلم من الرواية، وكان ابنُ أم مكتومٍ رجلا أعمى لا ينادي حتى يُقَال له: أصبحت أصبحت - لَزِمَ جوازُ الأكل بعد طُلُوع الفجر، وهو خِلافُ ما
(١) وقد جمع ابن خزيمة والصيفي بين الحديثين باحتمال أن الأذان كان نوبًا بين بلال وابن أم مكتوم، وجزم ابن حبان، بذلك ولم يبده احتمالًا - كذا في "شرح الزرقاني على الموطأ".