عليه الجمهور. فالظاهر أن حديثَ الباب مؤيِّدٌ لمن قال: إن حُرْمَةً الأَكل بتبيُّن الفجر، لا بنفس الطُّلُوع، وهو أقوى حُجَّةً، وهو أقوى حُجَّةً، كما قالوا. اهـ مختصرًا.
قلت: ومن بقاياه ما تسلسل في كُتُب الفِقْه من رواية جواز الأكل بعد الطُّلُوع أيضًا، كما في «قاضيخان»، وإن كان الأحوطُ هو التركُ. وأصل البحث في القرآن: فمنهم من أراد منه التبيُّن التام، ومنهم من اكتفى بنفس التبيُّن، ولذا أقول: إن من أكل بعد الطُّلُوع وانتهى عنه قُبَيْل الانتشار، فإنه يقضي فقط ولا يُكَفِّر، واستدلَّ الطَّحَاوِيُّ على ذلك بقصة زِرّ بن حُبَيْش مع حُذَيفة في الصيام، ثم أخرج في باب التأذين قبل الفجر، عن حَفْصَة رضي الله عنها: ما مرَّ آنفًا، ولفظه:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا أذَّن المؤذِّن بالفجر، قام فصلَّى ركعتي الفجر، ثم خَرَجَ إلى المسجد، وحَرُمَ الطعامُ، وكان لا يؤذِّن حتى يُصْبِح». وعند أبي داود، في باب الرجل يَسْمَعُ النداء والإناء على يده، عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا سَمِعَ أحدُكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يَضَعْه حتى يقضي حاجته منه». اهـ (١).
فهذه الروايات تَدُلُّ على جواز الأكل بعد نداء الصبح أيضًا، وحينئذٍ دَعَتْ الضرورةُ إلى الأذان الآخر، ليُمْسِكَ من أراد الصومَ عَمَّا يُمْسِكُ عنه الصائمون، فيمكن أن يكون تعدُّد الأذان في ذلك الزمان، فإذا نُسِحَ الأكلُ بعد الفجر، نُسِحَ أحدُ الأذانين أيضًا، وهو الذي قبل الفجر. وقال بعضُ العلماء: إن الأذان قبل الفجر في عهد صلى الله عليه وسلّم كان لتعليمهم وقت السُّحُور، ثم لمَّا عَرَفُوه تُرِكَ. هذا زُبْدَة مقالهم، وملخَّص كلامهم في هذا الباب.
والذي تبيَّن لي هو أن الأذانَ الأولَ أيضًا كان للوقت كالأذان الثاني، ومن قال: إن الأذان الأولَ لو كان للفجر لَمَا كانت حاجةٌ إلى الأذان الثاني، ففيه مصادرةٌ على المطلوب، كيف وهذا أول النزاع؟ وقد بيَّنا في أول الكلام أن الأذانَ الثاني ليس إعادةً ليُتَوَهَّم منه إبطال العمل، بل هو إعلامٌ بعد إعلامٍ، وهو معقولٌ. وإنما التزم الحنفية أنه للتسحير ليَسْهُلَ الجواب عليهم، ولذا قالوا: إنه مخصوصٌ برمضان.
قلتُ: ولا دليلَ عليه، وأمَّا ما قال به ابن القطَّان وابن دقيق العيد، فليس في أيديهما شيءٌ أيضًا إلا هذا الحديث، ولا نقلَ عندهم من الخارج أنه كان مخصوصًا برمضان، وإنما أبداه من قوله:«فَكُلُوا واشْرَبُوا»، ففَهِمَا منه أنه كان للتسحير، لأن الأكلَ والشربَ في الليل لا يكون إلا تسحيرًا، ولا يكون إلا في رمضان. وأصرحُ حُجَّةٍ عندهم على ذلك: حديث ابن مسعود رضي الله عنه لِمَا فيه تصريحٌ بعلَّة الأذان، وهي أنه:«لِيَرْجِعَ القائمُ، ويستيقظَ النائمُ». وحَمَلُوه على التسحير، فَغَلِطُوا في شرحه، مع أن المرادَ من القائم ليس هو القائمُ للصلاة، بل هو الذي قام
(١) قلتُ: قال البيهقي: إن صحَّ هذا، يُحْمَلُ عند الجمهور على أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله حين كان المنادي ينادي قبل طلوع الفجر، بحيث يَقَعُ شُرْبُه قبل طُلُوع الفجر. اهـ. قلتُ: ويُسْتَفَاد منه: أن الأذان قبل الفجر كان في زمانٍ، ثم انقطع فيما بعده، ولذا حَمَلَه على زمان تعدُّد الأذان. فلو كان الأذانُ قبل الفجر أمرًا مستمرًا، لم تكن في قوله: "حين كان المنادي" ... إلخ. فائدةٌ. ثم إذا عَلِمْتَ جوازَ الأكل بعد الصبح من رواية الطَّحَاوِيِّ صراحةً، فلا فائدة من هذا التأويل. والله تعالى أعلم.