عن فراشه، ثم ذهب لحاجته وتفرَّق في الفضاء وغيره، فمعناه أن بلالا يُؤَذِّنُ ليَرْجِعَ هذا القائم إلى الصلاة، وليقومَ من كان نائمًا، فيتأهَّبَ للصلاة. وعند الطَّحَاوِيِّ:«ليرجعَ غائبكم» بدل قائمكم، أي من كان غائبًا، ولم يكن موجودًا في بيته، وهو أصرح في هذا المراد.
ثم رأيتُ الشافعيَّ رحمه الله تعالى شَرَحَه بعين ما قلتُ. والحافظُ رحمه الله تعالى لَمَّا لَمْ يُدْرِكْ مراده تحيَّر منه، وَعَجَزَ عن جوابه، ولم يَقْدِر إلا على أنه لا تناقضَ في الأسباب، فجاز أن يكونَ للتسحير أيضًا، فكأنه التزم شرحه المشهور. وأمَّا إذا عَلِمْتَ حقيقةَ الحال، لم يَبْقَ لنا فيه استدلالٌ.
بقي حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، فليس فيه بيانٌ لِمَا كان بلالٌ يُؤَذِّنُ له، وإنما فيه:«أن بلالا يُؤَذِّنُ بليلٍ»، وأما لأي شيء هو، فلا حَرْفَ له فيه، وحَمْلُهُ على التسحير من بداهة الوَهْم لا غير، بل في طُرُقه ما يَدُلُّ على خلاف ذلك، وهو قوله في «صحيح البخاري»: «لا يَمْنَعَنَّكم أذانُ بلال»، فدلَّ على أن أذانه لم يكن مانعًا عن التسحير، لا أنه كان للتسحير كما فَهِمُوه، وهل تستطيع أن تفرِّق بينهما؟ ثم إنه لا ذِكْرَ للأذان الثاني في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في واحدٍ من طُرُقه، وإنما فيه الأذان الواحد، وهو قبل الوقت، وليس فيه علَّةُ الأذان، بل فيه نكتةُ التقديم، أي إن بلالا يُؤَذِّنُ بليلٍ ويقدِّمه ليرجعَ القائم إلى الصلاة، وليتأهَّب النائمُ.
أمَّا الأذانُ، فهو لِمَا عُهِدَ في الشرع، فَطَاحَ ما زَعَمُوه أنه للتسحير، وكفانا عن إثبات كونه للفجر. فإن الأذانَ لم يُعْهَد عند الشرع إلا للصلاة، مع أنه إذا قال: حيَّ على الصلاة، فليس معناه إلا أنه للوقت، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلا يُنَاسب أن يُقَدَّم إلى نصف الليل كما زَعَمَه النوويُّ، بل هو كما قلنا في الصبح المستطيل قبل المستطير. بقي أن الأذانين هل كانا في رمضان خاصةً؟ فهو أيضًا مما لا دليلَ عليه.
أمَّا قوله:«فكُلُوا واشْرَبُوا»، فهو متأتَ على ما فرضناه خارج رمضان أيضًا، وهذا لمن كان يريد صيام النفل، لا سِيَّما في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإن بعضَهم كان يصومُ صومَ داود، وبعضَهم يصومُ أيامَ البيض، وآخر يصومُ الدهرَ فلا يُفْظِرُ. ولم يكونوا بقليل، فأمكن أن يكون قوله:«فكُلُوا واشْرَبُوا» بالنظر إلى هؤلاء.
ويَدُلُّ على ما قلنا ما في «المسند»، و «الكنز»: «فمن أراد الصوم، فلا يمنعه أذانُ بلال حتى يؤذِّن». اهـ. فجَعَلَ الصومَ فيه بخيرته، فهل يُنَاسِبُ هذا في رمضان؟ فهو إذن لم يكن مُخْتَصًّا برمضان كما أنه لم يكن مستمرًّا في سائر السنة، أمَّا إنه لم يكن مستمرًّا في السنة كلِّها، فمما يَدُلُّ على ذلك ما في «السنن»: «إن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم حذَّر في أمر الجماعة مرةً وعظَّم أمرها، وخَفَضَ فيها وَرَفَعَ، فقال ابن أم مكتوم: إني رجلٌ أعمى، وليس لي قائدٌ، فهل لي رُخْصَةٌ؟ قال: نعم، ثم سأله أنه هل يَسْمَعُ التأذين؟ قال: نعم، فلم يرخِّصه في ترك الجماعة». فهذا صريحٌ أنه لم يكن يؤَذِّن دائمًا، وفيه دليلٌ على أن لسماع الأذان مزيدَ دَخْل في حضور الجماعة. وفي «الطبقات» لابن سعد: «إن بلالا كان يُؤَذِّن إذا حَضَر بالمدينة، وإذا غَاب أَذَّن ابنُ أم مكتوم، وكان بلالُ إذا أذَّن أذَّن قبل الوقت». نقله عن الواقدي، وهو أعلم بهذه الأشياء.