للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وبالجملة إني متردِّدٌ في ثُبُوت استمرار تعدُّد الأذان، ثم في أنهما كانا في مسجدين أو في مسجدٍ واحدٍ، فإن كانا في مسجدين خَرَجَ عمَّا نحن فيه، ولا دليلَ عليه في قول عائشة رضي الله عنها: «لم يكن بين أذانيهما إلا قدر ما يَنْزِلُ هذا وَيَصْعَدُ هذا». وليس فيه إلا شِدَّة التقارُبِ بينهما، لا أنهما كانا في مسجدٍ واحدٍ، ومن العجائب ما في «الوفاء» من الاكتفاء بأذانٍ واحدٍ (١) لجميعِ أهل المدينة، وكان في المدينة يومئذٍ تسعُ مساجدَ، وكلُّهم كانوا يصلُّون على أذان بلال، وليس مذهبًا لأحدٍ، ثم إني أجدُ في أحاديثٍ عدمَ رِضَاء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بأذانه قبل الفجر، وهذا حيث كان الأذانُ واحدًا، وهو كما أسلفناه عن الطَّحَاويِّ: «لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، فإن في بصره شيئًا»، وهذا يَدُلُّك ثانيًا على أن أذانَ بلال قبل الفجر لم يكن للتسحير كما فَهِمُوه، وإلا لَمَا احتاج إلى الاعتذار عنه: «بأن في بصره سوء»، بل كان للفجر، ثم كان يقدِّمه لسوء في بصره، فأَمر الناسَ أن يتحقَّقوا الفجر بأنفسهم. وكذلك ما مرَّ عن حَفْصَة رضي الله عنها، والأسود عند الطَّحَاوِيِّ: «أنه كان لا يُؤَذِّنُ حتى يُصْبِحَ»، وعند أبي داود: ولا تُؤَذِّنْ حتى يَسْتَبِيْنَ لك الفجرُ». قال أبو داود: وهو منقطعٌ.

قلتُ: وقد أخرجه الحافظُ ضياء الدين المقدسي في «مختاراته»، فلا بدَّ أن يكون قابلا للعمل، وهو عندي بإسنادٍ قوي أيضًا. والحاصل: أني متردِّدٌ في كون هذين الأذانين في مسجدٍ واحدٍ، وفي استمرارهما سائر السنة، والذي تَلَخَّصَ عندي: أن الأذانين حين كان ينادى بهما كانا للصلاة قطعًا لا للتسحير، نعم لم يكن الأول مانعًا عن التسحير بخلاف الثاني.

وعلى هذا ينبغي أن يُؤَوَّلَ ما رُوِيَ عن محمد (٢): «أن الأذانَ الأولَ كان للتسحير»، بأن


(١) قال الشيخ بدر الدين العَيْنِي رحمه الله تعالى في باب قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: ١٤٣] ... إلخ. أنه روى أبو داود مُرْسلًا، عن بُكَيْر بن الأشَجّ: إنه كان بالمدينة تسعةُ مساجدَ مع مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَسْمَعُ أهلُهَا أذانَ بلالٍ رضي الله عنه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصلون في مساجدهم، ثم فَصَّلَ تلك المساجد التسعة. انتهى. وفي "الوفي" نقل الأقشهري عن المحب الطبري: "أنه ذَكَرَ المساجد التي كانوا يصلُّون فيها بأذان بلال رضي الله عنه" اهـ.
(٢) قال محمد بن الحسن في كتاب "الحجج": قيل لهم: إنما كان يَصْنَعُ هذا بلالُ رضي الله عنه في شهر رمضان ليتسحَّر الناسُ بأذانه، ويكتفي الناسُ بأذان ابن أم مكتوم لصلاة الفجر، لأنه قد جاء حديث آخر يَدُلُّ على أن بلالا رضي الله عنه إنما كان يَصْنَعُ ذلك لسُحُور الناس في شهر رمضان خاصة، لأنه بلغنا: "أن بلالا رضي الله عنه أذَّن بليلٍ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينادي: أَلَا إن العبدَ قد نام". ولكن الأمر الذي رويتم كان في شهر رمضان، والأمر الآخر من كراهية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأذانه بليلٍ كان في غير شهر رمضان. أخبرنا عبَّاد بن العوَّام قال: أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي عُمَيْر، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمْنْعَنَّ أحدًا منكم من سحورهِ أذانُ بلالٍ رضي الله عنه، فإنه إنما ينادي ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم". أو: "ينبه نائمكم" ... إلخ الحديث.
قال محمد بن الحسن: أخبرنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة عن الحسن البصري: "أن منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُؤَذِّن لصلاة الصبح حتى يَطلُعَ الفجرُ"، وعن بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان لا يؤذن لصلاة الفجر حتى يَرَى الفجر". انتهى. قال الشيخ رحمه الله تعالى: وربما رأيت أن أصلَ كلام الطحاويِّ يكون من محمد رحمه الله تعالى، فيكون في كلامه لفظٌ، ثم يَبْسُطُه الطحاويُّ ويقرِّره، وقد جرَّبت عنه مثله في مواضع. ثم إنهم اختلفوا في كتاب "الحجج": فقيل: إنه من خط محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، وقيل: من خط تلميذه أبي عمران.

<<  <  ج: ص:  >  >>