«والمَمْشَى» مصدر ميمي، والحقُّ عندي أنه حاصلٌ بالمصدر، وليس عند النحاة، وإنما عندهم: المصدر، واسم المصدر. قلتُ: وما يسمُّونه اسم المصدر هو الحاصلُ بالمصدر عندي، كالرؤيا في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى}[الإسراء: ٦٠] ... الخ ولذا لم يَقُل: رؤيته، لأنه مصدرٌ، والمراد ههنا: هو الحاصل به. ومن ههنا ظَهَر أن المراد من الرؤيا هنا ليس رؤيا المنام، بل رؤيا عين. وترجمته بالهندية. (دكهاوا).
قوله:(والذي يَنْتَظِرُ الصلاةَ حتى يُصَلِّيَهَا مع الإِمام، أعظمُ أجرًا من الذي يُصَلِّي ثم يَنَام): يحتمل أن يكونَ المرادُ من الأول: من صلَّى مع الجماعة، ثم لم يَزَل جالسًا في انتظار صلاةٍ أخرى حتى صلاها مع الإمام. ومن الثاني: من صلَّى مع الجماعة ثم نام، ولم يُحْرِز فضيلةَ الانتظار للصلاة الأخرى. ويحتمل أن يكون المرادُ من الثاني: من صَلَّى مُنْفَرِدًا ثم نام، ولم يرغب في الجماعة. فالمقابلةُ على الأول: بين المصلِّيين بالجماعة إذا انتظر أحدُهما لصلاة أخرى، ولم ينتظر الآخر وعلى الثاني: بين المصلِّي بالجماعة والمصلِّي في بيته منفردًا، وعليه حَمَلَ الحافظ رحمه الله تعالى، واستفاد منه سُنية الجماعة، فإِن الشرعَ قابل بين المصلِّي بالجماعة، والتارك لها بعذر النوم. وما يُبَاح تركُه بأعذار يسيرةٍ، لا يكون شأنه شأن الواجب. فَإِذا عَلِمْنا أن الجماعةَ يجوز تركها بعذر النوم وإن كان مَفْضُولا عَلِمْنَا أنها سنةٌ وليست بواجبةٍ.
أقول: ينبغي أن لا يُحْتَجَّ بمثل هذه الأمور على المسائل الفقهية، فإن الحديث لم يُسَقْ لبيان سنية الجماعة ووجوبها، وإنما سِيقَ لفضل الجماعة، وإنما قَابَل بصلاة الفذِّ ليُظْهِرَ فضل الجماعة، فهو لِتَعْقِلَ صورة الحساب فقط، كما في حديث الزكاة:«في كل أربعين درهمًا درهمٌ»، لا يريد به بيان النصاب ليجب درهمٌ في أربعين درهمٍ، إنما يُريد به الحساب، فالخمسةُ في المائتين كالدرهم في الأربعين. وهكذا في قوله:«صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفذِّ» بكذا مرتبة؛ إنما سِيق لبيان الحساب، لا لصحة صلاة الفذِّ بمعنى عدم نقصان فيها.
ثم ذِكْرُ النوم ههنا أيضًا ضمني، والمراد به: عدم الانتظار، سواء نام أو اشتغل بأمرٍ آخر، لأنه إذا لم يُصَلِّها مع الجماعة، فصلاته مَفْضُولةٌ مطلقًا سواء نام أو لم يَنَمْ، وقد سَبَقَ نَقلا من إمام الحرمين على طريق الضابطة الكليَّة أن أخذَ المسائل لا ينبغي مما يَرِدُ في سياق التشبيه، فقد تُشَبَّهُ أمورٌ مرغوبةٌ بأمورٍ مكروهةٍ، كتشبيه صوت الوحي بصَلْصَلة الجرس، واستقرار الدين في المدينة برجوع الحية إلى حُحْرِها، وغير ذلك وإنما يكفي لصدقه صورة ما، فعلى هذا لو دَخَل رجلٌ في المسجد ولم يعلم متى يجيء الإمامُ، جاز له في بعض الأحوال أن يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا ثم ينام؛ فالجواز في بعض الصور يكفي لصِدْق هذا الحسابِ ولا يُوجبُ أن تكونَ الصلاةُ منفردًا.
ثم النومُ جائزٌ على الإطلاق، وللحنفي أن يقول: إن الرجلَ إذا كان مُنْكَسِرًا فاتِرًا، فله أن يُصَلِّيَ وينام عندنا أيضًا، فإن ضَعْفَه وانكساره له عذرٌ، ومن الأعذار في كُتُبنا ما هو أهون منه. ففي الفِقْه أن من يَزْدَحِمُ عليه الفتاوى، وهو مشتغلٌ في مراجعة الكُتُب، جَازَ له ترك الجماعة. وفيه: أن حنفيًا لو ناظر شافعيًا في رمضان، ورأى أن الصومَ يُضْعِفُه جَازَ له الإفطار.